قصة تخلي ترامب عن الكرد

قصة تخلي ترامب عن الكرد

غرفة انتظار الجحيم, هي الدائرة المعروفة باسم ليمبو ، حيث أعد هذا المكان البسيط, بحسب الشاعر دانتي أليغيري الذي عاش في القرن الرابع عشر ، لاؤلئك الوثنيين الاتقياء الذين عاشوا قبل بعث المسيح .


فان المسيح قد حرر الأنبياء والبطاركة اليهود بعد صلبه ، فإن الوثنيين الذين عاشوا حياة صالحة قبل المسيح سيتعين عليهم العيش و إلى الأبد في هذا المكان الذي لا يشبه الجنة كثيرا.


ولعل ما يبعث على الغرابة هنا هو قيام دانتي بمنح بعض الاستثناءات لعدد قليل من المسلمين الذين ولدوا بعد بعث المسيح, كأدراجه ذاك القائد الذي هزم العاهل المسيحي ريتشارد الأول خلال الحملة الصليبية الثالثة في القرن الثاني عشر. فقد وضعه فى «الحلقة الأولى فى الجحيم»... غرفة الانتظار الأبدى (Limbo).. فى مدخل الجحيم، حيث «عذاب الروح لا الجسد”

وهناك منكفا لوحده كان السلطان المغوار.

لقد كان تكريم هذه العبقرية العسكرية الإسلامية أقرب ما يكون إلى القديسين بالنسبة لدانتي. وبسبب صفاته المتمثلة في الفضيلة والصدق والفروسية والاتزان ، فقد ظهر هذا القائد في كانتو الرابع بسطر واحد فقط: "وهناك منكفا لوحده كان السلطان المغوار."


لطالما عُرف الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب باسم صلاح الدين. فقد كتبت عالمة الدراسات الدينية كارين أرمسترونغ في كتابها الحرب المقدسة: الحروب الصليبية وتأثيرها في عالم اليوم أنه "كان يحظى باحترام كل من الشرق والغرب, وكان البطل المسلم الوحيد الذي تسمى به المعجبين في أوروبا". لم يكن صلاح الدين حين انتصاره قاسياً بل عطوفاً ، ولم يكن شماتاً بل كريمًا ، كما لم يكن متعصبًا بل إنسانيًا.

...حظرت تلك الدول لغتهم وترائهم وارتكبت بحقهم أعمال التطهير العرقي والإبادة الجماعية

يتنوع الكرد في معتقدهم الديني, وان كانوا في غالبيتهم مسلمين علمانيين ، ففيهم السنة والشيعة والصوفيين والزرادشتيين والمسيحيين من مختلف الطوائف , وكذلك الديانه الاصلية الايزيدية التي لها صلات بالغنوصية في العصور القديمة المتأخرة.


 كثيرًا ما يتعرض الكرد للقمع في البلدان التي يتواجدون فيها , وهم يتعرضون بشكل دوري للاضطهاد الرسمي ، حيث حظرت تلك الدول لغتهم وترائهم وارتكبت بحقهم أعمال التطهير العرقي والإبادة الجماعية.


وكما هو حال الشعوب الاصيلة, فقد كان الكرد أيتام الاستعمار, إذ وعدوا بوطن مقتطع من الامبراطورية العثمانية بموجب أحكام معاهدة سيفر التي وقعها الحلفاء في ختام الحرب العالمية الأولى ،.


كان ذلك اشبه بتقرير المصير القومي الذي جاء به وعد بلفور والذي أدى في النهاية إلى قيام دولة إسرائيل.إلا انه تم النكث بهذا الوعد باتفاقية جديدة هي اتفاقية لوزان بعد ثلاث سنوات من اتفاقية سيقر. 


وكما هو الحال في إفريقيا وآسيا ،فقد فرضت القوى الاستعمارية الغربية حدودًا اعتباطية ، وفصلت المجموعات العرقية واللغوية عن بعضها البعض ، حيث ما تزال صدى تللك التداعيات تتردد حتى يومنا هذا.

في الآونة الأخيرة ، تمكن الكرد من إقامة اقليم كردي شبه مستقل في شمال سوريا على غرار كردستان العراق التي جاءت الى الوجود بفضل منطقة حظر الطيران

 وكانت النتيجة أن الوطن التقليدي للكرد قد تم توزيعه عبر عدة دول أخرى ، مما أدى فعليًا (ولبعض الوقت) إلى احباط التطلعات إلى الاستقلال الكردي. يشرح المؤرخ مايكل إبيل في كتابه شعب بلا دولة: الكرد من صعود الإسلام إلى فجر القومية أن "سكان كردستان - الكرد والأرمن - هم من نسل سكان المنطقة القدامى الذين اندمجوا بأمواج الفاتحين والمهاجرين الذين استقروا هناك وأصبحوا جزءًا من السكان ".لقد عانى كل من الأرمن والكرد ، وليس من قبيل الصدفة ، من العدوان التركي واللامبالاة الغربية.


على مدى القرن الماضي ، حارب الكرد ببسالة من أجل إقامة دولة ليس فيها اضطهاد سوري أو عراقي أو ايراني أو تركي. و غالبًا ما تحالفوا مع القوى الغربية في محاولاتهم تلك ، ولا سيما الولايات المتحدة ، لكنهم تعرضوا للخيانة مرارًا وتكرارًا ، لأن الأوروبيين والأمريكيين راضون عن ترك الكرد ينتظرون في غياهب النسيان. و مع وعد دونالد ترامب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسحب القوات الأمريكية من شمال سوريا ، وتغاضييه ضمنيًا عما تبعه من غزو تركي لمنطقة الحكم الذاتي الكردي، وصلت خياناتنا لحلفائنا إلى درجة غير مسبوقة.


لقد كُتب الكثيرون عن الكرد في الأسبوعين الماضيين في أعقاب تخلي الولايات المتحدة عن حلفائنا الأكثر ولاءً في الشرق الأوسط ، ولكن كما في مثال دانتي ، كان الغرب مكتفيا ومنذ فترة طويلة بالسماح للكرد بالعيش في منطقة ليمبو بدلاً من الجنة؛ يلجؤون للكرد عند حاجتهم و يديرون لهم ظهرهم عندما يتعلق الامر باستراتيجيات تلك البلدان.

في منطقة روج آفا السورية ، لم يتمكن الكرد من الانتصار على داعش فحسب ، بل تمكنوا من بناء دولة ناشئة تتعارض قيمها تمامًا مع الخلافة بكل الطرق التي يمكن تصورها.

كتب كلا من جين باجلان ومايكل بروكس في جاكوبين: أن الوعد الأمريكي بمغادرة شمال سوريا "لن يكون ضربة للإمبريالية الأمريكية" ، ولكن من شأنه أن يوفر فرصة لتركيا ل "تدمير الأحلام الديمقراطية [الكردية] الراديكالية". ويبدو أن القليل من القضايا قد تجمع بات روبرتسون وجاكوبين ، الا أن باجلان وبروكس هما من يفسران سبب خيانة ترامب. لم يكن الكرد ببساطة متخالفين في حربنا ضد داعش ، وذلك لأن هذه العلاقة نشأت نشأت عن الضرورة العسكرية ، ولكنهم أيضاً من بين المستطلعين والتجريبيين في واحدة من أكثر الترتيبات السياسية راديكالية ومساواة تللك يتم سنها حالياً في العالم ، خلال عصر تبدو فيه القيم الديمقراطية في حالة تراجع.


في منطقة روج آفا السورية ، لم يتمكن الكرد من الانتصار على داعش فحسب ، بل تمكنوا من بناء دولة ناشئة تتعارض قيمها تمامًا مع الخلافة بكل الطرق التي يمكن تصورها.


استنادًا إلى الفكر السياسي الراديكالي للفيلسوف الأمريكي موراي بوكشين ونظريات مؤسس حزب العمال الكردي عبد الله أوجلان ، أصبحت روج آفا حاضنة للتنظيم التقدمي. كتب مارسيل كارتييه في Serkeftin: سرد لثورة روجافا (العنوان يعني "النصر" باللغة الكردية) أنه في شمال سوريا هناك "شعور وروح وحياة وروح ثورة".


بين الكرد, يتم انشاء دولة راديكالية ملتزمة بالمساواة الكاملة بين الجنسين ، والإشراف الايكولوجي ، والديمقراطية متعددة الأعراق ، وكل ذلك يتم تنظيمه حول "الكونفدرالية الديمقراطية".


مع صعود مذهب التسلطية من موسكو إلى واشنطن ومن بكين إلى برازيليا ، أصبح مثال الكرد منارة لأولئك الذين يخشون كسوف الديمقراطية. 


ولهذا السبب تخلى ترامب عن الكرد ، ليس بسبب وجود فندق في تركيا ، ولكن لأنه يجب التضحية بمثال روج آفا في "اللعبة الكبرى" الحديثة للتعاون والمنافسة بين قادة الاستعمار الجديد في تركيا وسوريا وروسيا ، والولايات المتحدة.


إن ازدراء ترامب للكرد مع ذلك ليس, على الرغم من قيامهم بإرساء ديمقراطية مباشرة في روج آفا ، بل انه يعود الى السبب ذاته.


لقد تحول الكرد الى قضية بين اليسار العالمي ، كما كانت الحرب الأهلية الإسبانية خلال الثلاثينيات.


يرى كلا من روزا بورش وفؤاد أويسي ، في كتابتهما لمجلة Jacobin ، بأن "روجافا ، موقع ثورة الشعوب الرائعة ، هي على شفا الاستعمار والإبادة وان على اليسار الدولي أن يحول دون حدوث هذا الامر ".


ان ارتباط الكرد بالاشتراكية ومعاداة الفاشية والديمقراطية الراديكالية ليس من قبيل الصدفة لتخلي ترامب عنهم - إنه السبب وراء ذلك. بهذا المعنى الأكبر ، فإن هذا العمل البغيض ليس مجرد خيانة لمجموعة فردية من الناس ، إنه خيانة لفكرة الوعد بالديمقراطية ذاتها.

من الجدير بالذكر أنه عندما صمم دانتي جحيمه ، جاهد قدر ما امكن بوضع الخونة في الدائرة التاسعة والأخيرة ، بعيدًا عن صلاح الدين النبيل.

لذلك فمن المهم للغاية أن نسرد بدقة الطريقة التي أدارت بها الولايات المتحدة ظهرها للكرد على الرغم من ولائهم, و يجب علينا ا النظر كذلك في التداعيات المترتبة على تخلي ترامب عنهم الآن - وهو إجراء قد يبدو غير مدروس, كما يبدو في الواقع أنه ينم عن نوايا خبيثة أكثر من كونه مجرد كسب المزيد من العقارات لرصيد ترامب في اسطنبول .ففي كتابه الخيانة العظمى: كيف تخلت أمريكا عن الكرد وحسرت الشرق الأوسط ، يورد عالم الدراسات الدولية ديفيد فيليبس تفاصيل عن تاريخ الولايات المتحدة الطويل والمشين في التخلي عن حليفنا.

يقول فيليبس أنه ربما تكون خيانة ترامب الاخيرة أكثر صور تجليا في عدم الولاء ،إلا أن واشنطن "خانت الكرد في العراق من خلال عدم دعم هدفهم في الاستقلال" ، حيث رأت مختلف الإدارات الأمريكية في استرضاء اسطنبول ودمشق وبغداد فائدة أكبرمن احترام التزاماتها تجاه حليفنا.


في عام 1975 قطعت الولايات المتحدة التمويل العسكري عن الكرد ، مما سمح للديكتاتور العراقي صدام حسين بمهاجمتهم. وفي زمن إدارة ريغان ، غضت الولايات المتحدة بصرها حينما شن صدام ، الذي كان متورطًا أيضًا في الحرب ضد خصمنا إيران ، هجمات بالغاز الكيماوي على المدنيين الأكراد.


و بحلول حرب الخليج الأولى ، طلب الرئيس جورج بوش من الكرد أن ينتفضوا في وجه نظام صدام حسين ، وهو ما فعله الكرد بشجاعة ، الا ان الولايات المتحدة سرعان ما تخلت عن تعهداتها ودعمها لهم, ما أدى لتعرضهم للمزيد من المذابح.


في الآونة الأخيرة ، تمكن الكرد من إقامة اقليم كردي شبه مستقل في شمال سوريا على غرار كردستان العراق التي جاءت الى الوجود بفضل منطقة حظر الطيران التابعة للحلفاء في العقود السابقة.


لعبت المناطق الكردية والتي ولدت من رحم فوضى الحرب الاهلية السورية في تلك الدولة دورًا أساسيًا في القتال ضد الدولة الإسلامية الثيوقراطية والوحشية والانتصار عليها.

منذ أن انتشر داعش مثل غاز ضار في بلاد الشام والشرق الأدنى ، كان المقاتلون الكرد والدماء الكردية وتضحيات الشعب الكردي هي من استعادت الأرض شبرًا شبرًا ، ميلًا بعد ميل.

 كانت هذه حربا ضروسا على ماتسمى بالخلافة ، وكفاحا وجوديا في وجه أحد أشكال الأصولية الفاشية أساسا.


حتى في هذا الأمر كانت تقع على عاتقنا مسؤولية ، كما يصف الصحفي جيمس فيريني في كتابه سوف يموتون الآن: الموصل وسقوط الخلافة ، حيث كان العراقيون والسوريون والكرد "يعيشون ويموتون في حرب جديدة أكثر سوادًا ، حرب مع عدو كان عقيدته حب الموت ... حرب مع ذلك لم تكن لتحدث ، على الأقل ليس بهذه الصورة ، لولا الحرب الأمريكية التي سبقتها ".


 كانت القوات الكردية شبه العسكرية (لا سيما تشكيلات المقاتلات المرعبة), هي العامل الحاسم في تحقيق النصر في قتال داعش .أما الآن و بعد حصول أردوغان على الضوء الاخضر من ترامب لغزو الكرد ، ارتكبت تركيا بالفعل جرائم حرب ضد الكرد ، والمنطقة مزعزعة ، وتم تمكين قوى رجعية أخرى مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، كما عادت داعش إلى الظهور مرة أخرى.


كانت هناك تنديدات صارخة من شريحة واسعة من الطيف السياسي بين الجمهوريين ، الذين على الرغم من خروقات ترامب المستمرة للدستور,إلا أنهم مازالوا يدينون بالولاء للحاكم الجامح ، وبالطبع ثمة عقول راجحة ظهرت من هنا وهناك, حيث انتقدت شخصيات مثل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية كارولينا الجنوبية ليندسي جراهام هذه الخطوة باعتبارها تهديدا كبيرا للأمن القومي الامريكي.


وقد وصف ماكونيل قرار ترامب ، الذي كتب في صحيفة واشنطن بوست ، بأنه "كابوس استراتيجي" ، في حين قال راعي السلطة الإنجيلي بات روبرتسون ، متذكراً كيف لعب الكرد دورا محوريا في الدفاع عن المسيحيين من داعش ، إن تصرفات الرئيس جعلته "مذعورا تماماً". وفي حين يمكن القول إن الجمهوريين لم يجدوا أبداً حربًا لم يعجبهم ، فإن الاستياء من خيانة ترامب كان على نحو مماثل سبباً في إثارة غضب كل المسؤولين الديمقراطيين الرئيسيين تقريباً ، مع زعم نائب الرئيس السابق والمرشح الرئاسي الحالي جو بايدن بأن "ترامب باع الكرد" هو مثال تمثيلي للمشاعر.


المصدر: historynewsnetwork