إنّ من أكثر القضايا التي تشكّل خطرا وتهدّد جوهر الحياة، وتعتبر جريمة بحق الطفولة والبراءة في المجتمعات الإنسانية هي ظاهرة اختطاف الأطفال القاصرين والقاصرات ومن ثم تجنيدهم وزجّهم في أتون الحروب والصراعات المسلحة كونهم أي الاطفال هم أضعف المخلوقات البشرية على الأرض، فيتم استغلالهم بأبشع الوسائل والطرق لخدمة أهداف ومصالح استغلالية، قد تكون سياسية أو شخصية أو حزبية أو إيديولوجية متطرفة تؤمن بها تلك الأطراف التي تستغل هؤلاء الأطفال كوقود لصراعاتها، وعلى الرغم من أن الاتفاقيات الدولية قد عرفت الطفل "بأنه كل إنسان لم يتجاوز 18 سنة ولم يبلغ سن الرشد بعد" إلا أنه لا زالت هناك أطراف وتنظيمات لا تعترف بتلك القوانين وتضرب بها عرض الحائط متجاهلة كل الدعوات في اتجاه حماية الطفولة فتقوم بتجنيد الأطفال غير مبالية بشيء وتتصرف خارجة عن القانون، وتكمن الإشكالية من خلال استمرار هذه الجريمة على الرغم من المعاهدات والاتفاقات والجهود الدولية المبذولة التي لم تلق إلى الآن آذانا صاغية لمنع تجنيد الأطفال القسري والطوعي، فالقوى الكبرى على ما يبدو لا تتعامل مع تلك الجماعات بلغة صارمة لتضع لها حدودا وهذا ما يدفع بها إلى التمادي في أفعالها والاستمرار في هذه الظاهرة الخطيرة التي تختطف براءة الطفولة وتحرمها من الحياة الطبيعية، وتزج بها في مستنقعات الحروب، فيحمل الطفل عبئا وثقلا تفوق طاقته وقدرته العقلية وإدراكه، فتقوم تلك الجماعات بشتى الوسائل لترويضه على افكارها وسلوكياتها وكذلك غسل دماغه خدمة لأهدافها وأعمالها وسلوكياتها ومشاريعها.
ولعل ظاهرة تجنيد الاطفال في الحروب والتي أصبحت أكثر انتشارا في السنوات الأخيرة على الرغم من أنها ظاهرة قديمة جديدة لها أسباب متعددة، منها أن معظم الصراعات والحروب في العالم في الآونة الأخيرة هي ذات نزعة وطبيعة داخلية بين مجاميع محور نزاعاتها دينية أو عقائدية أو اثنية ينخرط فيها المدنيون بشكل أو بآخر مما يسهل المجال أمام الجماعات المسلحة لاختراق البيئة الاجتماعية والولوج حتى بين أفراد الأسرة الواحدة والعائلة الواحدة تحت شعارات إيديولوجية بحتة أو بدافع حمايتهم وبذلك تتمكن تلك الجماعات المسلحة من الوصول إلى مبتغاها تحت حجج وذرائع قد تبدو أو تتحول ظاهرة تجنيد الأطفال في بعض الحالات إلى حالة شبه طبيعية كما في حالة الثأر والانتقام لما تخلفه هذه الصراعات من مآسي تندى لها جبين الإنسانية وكانت ولا تزال الساحة السورية مرتعا خصبا لتلك الجماعات والميليشات الخارجة عن القانون والتي وجدت البيئة الخصبة لتمارس نشاطاتها وتطبق أفكارها وإيديولوجيتها المنغلقة داخل المجتمع الذي تتحكم به ويرزح تحت سلطاتها وقوانينها.
لماذا الأطفال؟ وكيف يتم الإيقاع بهم في المصيدة؟
إذا ما نظرنا إلى لوحة الصراع السوري خلال تسع سنوات مضت، نجد أن الطفولة تعرضت لمختلف صنوف وألوان التعذيب من الجوع والفقر واليتم والتشرد والحرمان إلى الزج بها في القتال والصراعات العسكرية، ولم تقتصر هذه المظاهر على رقعة جغرافية محددة بل شملت كل الجغرافية السورية، وكذلك لم تقتصر على تيار او حزب معين بل شملت كل تلك الاطراف المتحاربة، وبما أن شمال شرق السورية جزء من تلك الجغرافية والتي تسيطر مجموعة من التشكيلات العسكرية المختلفة أبرزها قوات سورية الديمقراطية علاوة على وجود قوات النظام السوري في بعض المناطق وعدد من التشكيلات الميليشياتية المرتبطة به، فإنه الآخر لم يستسلم من تلك الظاهرة التي تشكل تهديدا للمجتمع وخطرا على حياة الطفل كإنسان قاصر لم يتكون لدية بعد إرادة القرار حتى يقرر حياته، لذلك فقد شهدت كافة المناطق في الآونة الأخيرة تزايدا ملحوظا في ظاهرة اختطاف الأطفال والتي تعد جريمة حرب بحسب مواثيق الامم المتحده ومعاهدة جنيف المتعارف عليها والتي تحرم تجنيد الاطفال القصر دون السن القانوني وهو 18 سنة، ويحظر البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل على القوات الحكومية والجماعات المسلحة غير التابعة للدول استخدام الأطفال وتجنيدهم، واعتبرت ذلك جريمة حرب بحسب تعريف " نظام روما " المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية.
لذلك عندما بدأت المعمعة السورية منذ بداياتها عام 2011 م، سارعت كل الأطراف المتحاربة ابتداء من النظام والمجموعات الراديكالية وانتهاء بالمعارضة على الخارطة السورية من درعا وحتى القامشلي ومن خلال أجنحة عسكرية إلى تكوين خلاياها وتثبيت اركانها ووجودها بقوة السلاح على الأرض ومارست على الشعب شتى الوسائل لإرضاخه لسياساتها وترويضه على أفكارها، وبدأت مع تكثيفها نشاطاتها حملات كبيرة في تجنيد الاطفال ضمن صفوفها، فوجدت البيئة المناسبة لممارسة سلوكياتها واعمالها، والكثير من هذه المجموعات كانت لها خبرة وباع كبير في اختطاف الأطفال وتجنيدهم لصالحها، ولماذا الأطفال؟ لأن:
لذلك فعملية الاختطاف كانت ولا زالت تبدأ بوسائل وطرق إقناعية ورغبوية يبحث عنها كل طفل ليعبر عن وجوده وشخصيته، فغالبا لا يبدأ الاختطاف بشكل مباشر وإنما يكون من خلال التمهيد له من خلال تهيئة البيئة المناسبة للإيقاع بالطفل في الشباك أو المصيدة، فبعد سيطرة تلك المجموعات أو المجاميع المسلحة من دينية وإثنية ووسلفية متطرفة وطائفية وخاصة الدخيلة منها على مدن وبلدات سورية، سارعت جميعها ومنذ البداية إلى تشكيل مؤسسات شرعية من وجهة نظرها تدار حسب قناعاتها وأفكارها ومعتقداتها، فيتم اخذ الأطفال بداية إلى هذه المؤسسات على أساس أنها مؤسسات مدنية اجتماعية تربوية أخلاقية تعالج قضايا الشعب والمجتمع إلا أنها في حقيقتها كانت مؤسسات تمهد لتغيير افكار الشباب وتربيتهم على افكار الجماعة أو التنظيم وبالتالي إقناع الأطفال بترك والديهم والمؤسسة العائلية واللحاق بالحزب أو التنظيم أو المجموعة المسلحة والتي بدورها تتصرف بهم كما يشاء لخدمة الفكرة التي تؤمن بها، لذلك هذه المؤسسات وقبل اختطاف هؤلاء الأطفال فإنهم تزرع في عقولهم حالة من التمرد على كل ما هو مألوف من خلال تشويه المقدسات وكذلك تحريضهم على العادات والتقاليد المجتمعية، فمن هذه الاساليب التي تتبعها هذه التنظيمات والمجموعات لجذب الأطفال واقتناصهم:
لذلك وبعد الإيقاع بهم في المصيدة تبدأ المرحلة الثانية والتي يتم خلالها تحويلهم إلى معسكرات خاصة بالتجنيد وتدريبهم على دورات خاصة تربوية وفكرية وعسكرية وعقائدية وذلك من خلال تدريسهم في هذه المعسكرات كتبا أو تلقينهم أفكارا متطرفة في كل شيء أي أن الأمر يستهدف مسح ذاكرتهم المجتمعية والقيم الاخلاقية التي أنشؤوا وتربوا عليها، فيمر الطفل بتجربة قاسية خلال الفترة الأولى فتتولد لديه نوعا من القناعة بأن اللجوء إلى القسوة هو الوسيلة الامثل لحل المشكلات التي يصادفه.
لذلك فأغلب حالات الاختطاف أو تجنيد الأطفال التي جرت في مختلف المناطق السورية كانت ولازالت تعتمد فيها تلك الأطراف المتحاربة على الوسائل السابقة، وجدير بالذكر أنه يتم استغلال الوضع الاقتصادي بالدرجة الاولى وحالة الفقر المنتشرة في الإيقاع بالأطفال في مصيدتهم، والأهم أنهم يستغلون الخلافات بين أفراد الأسرة وخاصة الوالدين، فأي خلاف تتدخل السلطة الموجودة في المنطقة مباشرة فيه من خلال أعضائها أو أشخاصها أو عملائها أو تقوم بتحويل الموضوع إلى مؤسساتها المختصة للبت فيه ولإعطاء نوعا من الشرعية لنفسها، وتحاول قدر الإمكان إثارة الموضوع والبحث عن الثغرات لتتمكن من استغلال الموضوع لصالحها وأغلب هذه المشاكل وخاصة الخلافات العائلية كالطلاق وغيره غالبا تكون الطفولة هي الضحية الأولى فيتم إقناعها باللحاق بهم إلى معسكراتها القتالية لزجهم في الحروب والمهمات القتالية من خلال غرس الإيديولوجية والأفكار الخاصة للجماعة أو التنظيم في عقولهم.
ختاماً:
فنظراً للأهمية الاستثنائية لهذه القضية ( قضية تجنيد الأطفال وزجّهم في الصراعات) وكونها تشكل جريمة وفقا للقانون الدولي، والقانون الدولي الجنائي، وكذلك القانون الدولي الإنساني أولت النظم القانونية اهتماما متزايدا بها من خلال رفع مستوى المسؤولية الجزائية والمدنية لمرتكبي الجريمة، وكذلك عدم الاعتداد بالرضا الصادر من الأطفال طالما يؤدي تجنيدهم وهم في هذا المرحلة العمرية إلى إلحاق الضرر بهم، لذلك فمن المفروض أن تتم رعايتهم لا ترويعهم وتدمير مستقبلهم بالحروب والنزاعات، للأسف ما جرى ويجري على الجغرافية السورية منذ أكثر من تسع سنوات هي جريمة لا تغتفر بحق الطفولة وبراءتها، فتمت معاقبتها بأشكال شتى من حرمان وجوع وقتل وتشريد واعتقال والزج بها في أتون الصراعات بمختلف تسمياتها والأعمال القتالية ولا زالت الجريمة مستمرة إلى اليوم من دون أن يتحرك الضمير الإنساني العالمي الذي يبدو أنه واقف حتى اليوم وقفة المتفرج ضاربا بكل معاهداته واتفاقاته في هذا المجال عرض الحائط فبقيت كلها حبرا على الورق، لذلك على الامم المتحدة وكل المنظمات الدولية المعنية بشؤون الطفولة أن تبحث عن سبل ناجعة لاحترام تطبيق قوانينها التي تخص الطفولة وتضع حدا لهذه الانتهاكات اللاإنسانية بحق الاطفال القصر وإنقاذهم من براثن الموت وتجار الحروب الذين لا يهمهم الإنسان أبدا.