خطـابُ الكـراهيـةِ وسـُبـل مناهضتـهِ في المجتمـع السـّوري

خطـابُ الكـراهيـةِ وسـُبـل مناهضتـهِ في المجتمـع السـّوري

إنّ خطابَ الكراهية هو عبارة عن مرض فتَّاك في المجتمعات ولا سيَّما تلك التي تتميَّز بتعدُّد مكوّناتها الإثنية والعرقية والطائفية، فيدمّرها من خلال إشاعة منهج العنف والتعصُّب وإقصاء الآخر، بمعنى آخر هي فلسفة تمثّل منهج العنف المدمّر الذي يقوم على مبدأ " إمّا أنا وإمّا أنت" بدلاً من " أنا وأنت" حيثُ تستيقظ من خلاله كافّة الأحاسيس والمشاعر والغرائز المدمّرة في نفس الإنسان، ويتحوّل على إثرها إلى وحش قاتل يفقد كلّ ما يملكه من مشاعر وأحاسيس، فخطاب الكراهية لا يُولد مع الإنسان وإنّما يكتسبه الإنسان مع مرور الوقت من الوسط الذي يعيش فيه أو يحتكّ به ويصبح مع الزمن سلوكاً حياتياً، ويتمّ بناء الكراهية في النفوس وتغذيتها من خلال المنابر المخصّصة لها ليتمّ استثمارها في الوقت المناسب، فالسّلطات المتعاقبة على الحكم في سورية لجأت على الدّوام في استثمار خطاب الكراهية حيث وجدت فيه أداة رئيسية لتمزيق المجتمع وإضعافه وهزيمة قواه الحيَّة، وبالتّالي مكّنها من السيطرة على المجتمع والتحكُّم به، وهذا ما فعله آل الأسد فيما بعد الذين حركوا الآلة الإعلامية الرسمية التي تتبعهم على الدوام لتؤكّد وترسّخ على مدى سنوات بأنّهم الضًمان الوحيد لأمن واستقرار البلد، لذلك اعتمدوا في حكمهم على مبدأ" فرّق تسد" فنشروا شبكة من مخابراتهم على مستوى الوطن لتنفيذ هذه السياسية، وقد نجحُوا في سياستهم إلى حدّ كبير واستطاعوا أن يفرّقوا الشعب من خلال خطاب مُفعَم بالكراهية وإثارة النعرات والصراعات البينيَّة، ففُقِدت الثقة بين مكوّنات الشعب السوري، وعاش الجميع في حالة من العزلة والانغلاق التّام ضمن جماعته أو طائفته، وقد اتّخذ هذا الخطاب المدمر صوراً عدّة: 

  • قوميَّة: من خلال اتّهام الكردي بأنّە انفصالي أو مُلحِد وتشويه صورته ضمن المجتمع السوري ككلّ وهذا ما خلق توجُّهاً سلبياً لدى باقي تكوينات المجتمع السوري وخاصّة التيارين القومي والديني السوري تجاه القومية الكوردية، وقد بدت نتائج هذا الخطاب اليوم من خلال موقف كلّ من المعارضة والنظام للكرد وقضيتهم ورفضهم لوجوده وبأنّهم مهاجرون وكفرة، هذا الخطاب المدمّر ليس وليد اللحظة وإنّما تمّت صناعته لسنوات طويلة في مختلف مراحل البنية المتحوّلة للمجتمع السوري من خلال المشاريع الشوفينية والإجراءات الاستثنائية بحقّه ومحاربة وجوده والتعتيم عليه.
  • طائفیَّة: من خلال تفضيل النّظام لأبناء طائفته العلويَّة على الطوائف الأخرى والثقة بهم من خلال توليهم المناصب الحساسة في الدولة وخاصّة السلك الأمني والعسكري ومنحهم الرُّتب العالية، في حين كان أبناء الطائفة السنية يشعرون بالظلم والخيبة وما إنْ يصل أحدهم إلى مركز أو منصب مهم سرعان ما يتمّ تسريحه وإحالته إلى التقاعد، لذلك بقيت الطوائف الدينية منغلقة على نفسها وانعدمت التواصل فيما بينها تقريباً، فالمسيحي كان يعيش في إطار أبناء طائفته، كذلك السّني والعلوي واليزيدي، هذا الانغلاق كان ناتجاً عن حالة الخوف وعدم الثقة بالآخر ممّا خلق داخل كلّ جماعة خطاب يبغض ويكره الآخر ويمقته وجاهز للانفجار في أية لحظة، وهذا ما بدا جلياً خلال الأزمة التي نعيشها منذ قرابة تسع سنوات فقد تمّ استثمار ذلك من قبل السلطة على مدى عقود طويلة.
  • اجتماعيّة: من خلال الإهمال المتعمّد لبعض فئات المجتمع السوري، فتمّ وصف بعض المساحات الجغرافية بأنّها" مناطق نائية"، او إهمال أبناء الأرياف أو إطلاق نعوت من قبيل" الشاوي" أيّ الجاهل والمتخلف والدونية، وكذلك الإهمال المتعمّد لبعض المناطق وعدم تزويدها بالخدمات ووسائل الحضارة والبنية التحتية وخاصّة منطقة الجزيرة في حين كان هناك اهتمام مثلاً بالساحل والداخل السوري والعاصمة دمشق، على الرّغم من أنّ منطقة الجزيرة تسمّى" سلّة غذاء سورية" وقد كانت تسمّى في ستينات القرن الماضي ب "كليفورنيا الشرق"، فتمّ إفقارها بشكل متعمّد، فتوجّه الكثير من أبنائها إلى البحث عن فرص العمل في دمشق والداخل السّوري كعمال يبحثون عن لقمة العيش، فتولّد لديهم شعوراً بالقهر وعدم الإنصاف وانعدام العدالة المجتمعية.


لذلك أخذت الكراهية أوجهاً متعدّدة في المجتمع السوري منها ما هو قوميّ ومنها ما هو اجتماعيّ أو ثقافيّ، لكن الأكثر حدّة وقسوة وبقيت قنبلة موقوتة في المجتمع السوري هي الكراهية الدينية الطائفية التي سرعان ما اجتاحت وتأجّجت كالنار في الهشيم وتمّ استغلالها من قبل بعض الأطراف الخارجية لتنفيذ أجنداتها وخاصة تركيا، وبدتْ في أفظع صور يندى لها جبين الإنسانية بين الجيران أنفسهم في المناطق المتجاورة والمتداخلة، العلوي رأى في قتل السني ثأرا لحسين، والسني نظر إليه بأنّه كافر ومشرك يجب قتله ووجد الفرصة السانحة للنيل منه والسيطرة على السلطة التي يشعر بأنّها قد سلبت منه وهي من حقّه وحان الوقت المناسب لإعادتها والحكم من خلالها بشريعته التي يجب أن تفرض على الكلّ. 


لذا فما إنْ بدأت الأزمة السوریة سرعان ما تعدّدت المنابر الإعلامية التي بدأت تبثُّ خطاب الكراهية بلغة انفعالية هوجاء بعيدة عن المنطق والعقل تنشر العداوة والتمييز وتحرض على القتل والعنف، ولم تقتصر هذا المنابر على الداخل السوري بل تعدَّت الحدود فانهالت الأحقاد والكراهية على الوطن السوري من كل حدب وصوب وكان أغلب ضحاياها من الأبرياء والناس العزل، وما يؤسف له أنَّ الكثيرين ممن كانوا يُؤمل فيهم أن يكونوا عقلاء القوم ركبوا موجة الكراهية وساهموا بخطابهم البغيض في قتل الشعب السوري من خلال إثارة الفتن والتحريض المباشر على العنف، فتحوّلت الجغرافية السورية إلى مرتع لكل الجماعات الإرهابية التي تدعمها اجندات دولية وفكرية شتى من أجل تنفيذ مشاريعها ومآربها على حساب الدم السوري وأمنه واستقراره.


فمن البدهي أنّ خطاب الكراهية يخلق حالة من عدم الثقة، ويعمل على زرع بذور الخوف والرعب وتكون نتائجه كارثية على المجتمعات فينشر الخراب والدمار في كل مكان، ويصعب حينها التئام الجروح، وهذا هو الواقع السوري المعاش اليوم، الذي شهد إبادة بحقّ البشر والشجر والحجر، فهناك من قتل على أساس الدين أو القومية أو الطائفة، فهذه الجرائم لم ولا تستهدف الإنسان فقط وإنّما حتى لم تسلم منها الأملاك العامة والخاصة والمباني ودور العبادة حتى الآثار والقبور فقد تمّ تدميرها وإزالة آثارها كما حصل في مدينة عفرين الكوردية عندما اجتاحتها مجموعات المرتزقة السوريين مع الاحتلال التركي لها، أيّ دين وأيّ عقيدة تسمح بهكذا أفعال لا إنسانية؟!!. إنّه خطاب الكراهية الذي غذّته منابر الشوفينيين والمتطرفين في الداخل وتركيا بتهم الإلحاد والانفصال جزافا ضدّ الشعب الكوردي المسالم على ارضه. لذلك عندما نقول إنَّ الكراهية صناعة فهي حقيقية، فمن أبرز أدوات صناعتها: نشر الكذب، وتزوير الحقائق، ومخاطبة عقول البسطاء، خداع الناس، التفرقة الاجتماعية، إثارة الفتن والثأرات، بالتأكيد حتّى يتحقّق خطاب الكراهية لا بدَّ من بيئة مناسبة، فقلّما ينمو في المجتمعات المستقرة، وإنّما يتأجّج ويتصاعد في الأزمات ويجتاح المجتمعات من خلال وسائل عدة: أبرزها الإعلام وخاصة الالكتروني الذي أصبح متاحاً في توصيل المعلومات في أسرع وقت ممكن وإلى كل أصقاع العالم. فقد أسهم التطور التكنولوجي وخاصة الأنترنت ووسائل الإعلام المتنوعة في لعب دور كبير في تفشي خطاب الكراهية، فشبكات التواصل الاجتماعي تعجُّ اليوم بالشتم والسّباب، فغاب النقد البنّاء الذي يصوّب الأخطاء ويقوِّم الأعوجاج، فما نراه اليوم في البوستات المكتوبة وخاصة التعليقات هو تأجيج للشرخ الذي حصل في المجتمع السوري، فأنصار النظام يهاجمون المعارضة وبالعكس، وكلاهما معا يهاجمون الشعب الكردي ويتّهمونه بالانفصال والإلحاد، حقاً أنّه خطاب هدّام خطير فتح جروحاً عميقة في الجسد السوري، في ظلّ غياب العقلاء والحكماء والمثقفين من كلّ المكوّنات وكذلك غياب إعلام مهني جامع يقوّي الروابط الوطنية لمكوّنات المجتمع السوري ويؤسّس لهوية جامعة يساهم الكلّ من خلالها في بناء دولة ديمقراطية لامركزية تمثّلهم في بوتقة هوية سورية جامعة ولا تُختصر في هوية مكوّن واحد.


منـاهضـةُ خطـابِ الكراهيـة ومنـعـە

نحنُ السوريينَ اليوم- أقصدُ النّخبة المثقفة التي قصَّرت حتّى الآن من القيام بواجبها- يقعُ على عاتقنا مسؤولية كبيرة في البحث عن نقاط التلاقي "ماضياً وحاضراً" التي تجمعنا وتوحدنا من أجل صياغة خطاب وطنيّ جامع يناهض الكراهية ويؤسّس لهوية وطنية جامعة لكلّ مكوّنات المجمتع السوري، خطاب يقوم على مبدأ " أنا وأنت" أيّ أنّنا معاً سنبني مجتمعاً جديداً قوامه المحبّة والتّسامح والسّلام الاجتماعي وقبول الآخر لا مكان فيه للكراهية ومعاداة الآخر المختلف، لذلك فإنّ أهل الفكر والثقافة ورموز الأديان ومفكريها هم اليوم يجب أن يقودوا هذه المسؤولية لأنّهم الأجدر بمواجهة خطاب الكراهية، فهم النُّخبة الأكثر تأثيراً في الوسط الاجتماعي وذلك بغرس ثقافة التّنوع وقبول الآخر والتسامح والتعدُّد في نفوس أتباعهم وتلامذتهم والوسط الاجتماعي الذي يتبع لهم ويؤمن بأفكارهم وآرائهم، لذلك يمكن ان نُجمل بعض النقاط التي يمكن لنا من خلالها وضع جدول لمناهضة خطاب الكراهية:

  • الاعتراف الدّستوري بكلّ المكوّنات التّي تشكّل المجتمع السوري وتحديدها، وإلغاء طغيان الفكر العروبي والطائفي من بوتقة الهوية السورية، والتأكيد على أنّ سورية كدولة لا يمكن أن تختزل في أية هوية.
  • تعزيز القيم التسامحيَّة النبيلة وتبدأ من الوسط الصغير (البيت ومن ثمّ الأسرة ) في تسامح الأبوين مع بعضهما وفي تسامح الأولاد مع بعضهم ومع أهل الحي والأصدقاء... ومن ثمّ تمتدُّ تلك الثقافة إلى المؤسّسات التعليميّة كالمدارس والمعاهد والجامعات, ولكي تنمو وتزدهر ثقافة التسامح ونحوّلها إلى قناعات ثابتة تجسّدها سلوكيّات أفراد المجتمع لا شعارات مناسباتيَّة.
  • تشجيع التعليم المنفتح على كلّ الثقافات الإنسانية, والتثقيف المعزَّز لكرامة الإنسان وحقوقه ليسمو فوق الانتماءات للطائفة والمذهب والعشيرة ...الخ.
  • ضرورة تكاتف الجميع لإشاعة قيَم التسامح عبْر الخطب والمواعظ والشعارات والتغنّي بالأمجاد التاريخيّة واللحظات المضيئة في تاريخنا, وبالأقوال المأثورة لعظمائنا ورموزنا التاريخية (الدينيّة-القوميّة- والاجتماعيّة...), الذين أكّدوا مراراً على ترسيخ قيم التسامح والإخاء الإنساني, طبعاً هذا لا يجدي نفعاً إذا كانت البيئة المجتمعيّة المحيطة والتركيبة الفكريّة والثقافيّة والاقتصاديّة غير متسامحة, وكذلك علينا أن نَعْلَمَ أنّ عقول الناس ونفوسهم ومن ثمّ سلوكيّاتهم لن تتغيّر بقرارات فوقيّة, لذا لا بُدّ من تغيير البيئة المحيطة عبْرَ المفاصل الحاكمة للثقافة المجتمعيَّة, وهي مفاصل ستّة:( المنبر التربوي- المنبر التعليمي- المنبر الديني- المنبر الإعلامي- المنبر التشريعي- والمنبر السياسي ). 
  • توعيةُ المجتمع بقيم التّسامح ونشر ثقافة التّنوُّع وقبول الآخر واحترامه، ورفع مستوى الوعي من خلال تطوير الفكر المجتمعي بإقامة دورات تدريبية في كل منطقة وتبيان مخاطر التمييز والتعصُّب والانغلاق وكراهية الآخر .
  • معالجةُ سلبيات الإعلام، من خلال الحدّ من خطاب الكراهية والسّموم التي تبثه خاصة شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت منصات للتفرقة والمعاداة، وإيجاد إعلام مهني وطني يركز على اهمية العيش المشترك السلمي وقبول الآخر ويبث خطاب الاعتدال والوسطية.
  • ضرورة وضع معايير وضوابط قانونية وسياسية ودستورية تلزم الجميع بها لتكون مظلّة جامعة، ومراقبة ومحاسبة كل من ينشر خطاب الكراهية ويخالف تلك المعايير وفق الضوابط القانونية الموضوعة بهذا الشأن.


وأخيراً:

لا بدَّ لقوى التغيير الوطنية أن تتكاتف وتتوحّد لتقوم بدورها المطلوب في إحداث انتقال سياسي سليم تضع نهاية لخطاب الكراهية والبغضاء وتؤسّس لمرحلة جديدة في تاريخ الوطن السوري، مرحلة تتّسم بقيم التسامح والإخاء وقبول الآخر المختلف مهما كان نوع الاختلاف، يداً بيداً من أجل بناء مجتمع جديد جامع ومستقبل افضل يعيش فيه الجميع بآمان وسلام.