زواج الأقارب في المجتمع الكُردي السوري بین العادات والعلم الحدیث

زواج الأقارب في المجتمع الكُردي السوري بین العادات والعلم الحدیث

لا تزال ظاهرة زواج الأقارب متواجدة بكثرة في بعـض المجتمعات لاسيّما الشرقیة منها نظراً للترابُط الأسري المتین الموجود في تلك المجتمعات، فعلی الرّغم من نجاح حالات كثیرة منها إلّا أنّ هناك بعض الحالات من هذه النوع من الزواج أدّی إلی ظهور مشاكل صحیّة وأمراض وراثیة خطیرة عند الأولاد، فهذا النوع من الزواج یرتبط بالدرجة الأولی بالعادات والتقالید أو ما یسمّی بالأعراف الاجتماعیة، وقد شاعت بعض الأقوال مثل" تروح البنت للقریب أحسن من الغریب- بنت العم لابن العمّ" والتراث الكردي الغنائي ثريّ بالمواضیع التي تتحدّث عن حبّ ابنة العمّ " دۆتمام"، أمّا عن مفهوم زواج الأقارب فهو یعني زواج بین الاثنین تجمعهما رابطة الدّم ویسمّي أیضاً بالزواج اللحمي أو الزواج الداخلي ویكون بین أولاد العمّ من الدّرجة الأولی أو أبناء العمّة أو الخال والخالة وقد تتوسّع السلسلة أكثر لتصل إلی الأعمام من الدرجة الثانیة وغیرها.


ینتشر زواج الأقارب في المجتمعات العشائریة بشكل أكثر وبین بعض الجماعات المنغلقة الدینیة والطائقیة.. إلخ، وبما أنّ المجتمع الكردي السوري في أغلبیته تتحكّم به المنظومة العشائریة نجد أنّ هذه الزیجات لازالت دارجة وخاصّة في الریف الذي غالباً ما یتمّ فیه هذا الزّواج قبل بلوغ العروسین سنّ الثامنة عشرة ویكون بقرار الأبوین غالباً أو أولیاء الأمور الذین من یقرّرون بدلاً من العروسین، بالتأكید لا یخلو الأمر من وجود حالات حبّ حقیقیة في زیجات الأقارب وتنتهي بتكوین أسرة متماسكة وسلیمة. لذلك فزواج الأقارب من العادات التقلیدیة في المجتمع الكردي في سوریا وذلك للحفاظ علی الترابط الأسري وزیادة درجة التلاحم بین عناصر العائلة الواحدة، فقدیماً وحتّی سنوات متأخّرة كان هذا الزواج یدعم بظاهرة "حجز ابنة العم لابن العم"منذ الصّغر بقرار من الأهالي وفي بعض الأحیان كان ابن العمّ وهو من یحسم الأمر حتّی وإن كانت البنت لا ترغب به، فكانت هذه العلاقة تفرض علیها من قبل ابن عمّها " إمّا أن تكوني لي أو لن تتزوّجي أبداً"، فالقرار لم يكن بید البنت فتضطرّ إمّا بالموافقة تحت ضغط أمر الواقع أو تبقی من دون زواج، وفي بعض الأحیان كان أبوها أو أخوها یتدخّلون لمساعدتها برفض قرار ابن عمّها ويؤدّي ذلك غالباً إلی قطیعة تامّة في العلاقات الأسریة بین الطرفین.


undefined


زواج الأقارب عادة متوارثة لها أهدافها وأسبابها

یرتبط زواج الأقارب في أيّ مجتمع بنمط وأسالیب التفكیر فیه، فكما هو معروف أنّ العادات تتكوّن خلال البنیة المتحوّلة لأيّ مجتمع، لذلك فالعادات الكردیة القدیمة راسخة لاتزول بمجرد قانون أو رغبة، فعلی سبیل المثال عادة " الحیار" كانت معمولة بها حتّی فترة قریبة توارثتها أجیال عدّة إلّا أنّها الیوم لم تعد محبّذة لأسباب كثیرة منها زیادة الوعي وانتشار الثقافة والعلم .


لذلك كان الهدف الأساسي من هذا الزواج لحصر الثروة أو الملك العائلة ضمن العائلة نفسها وللمحافظة علی الترابط العائلي والحمایة من الذوبان والانصهار في بوتقة جماعات أخری، فالدافع الأساسي له هو استمراریة وبقاء الجماعة والحفاظ علی خصوصیتها وشخصیتها المستقلّة، فالزواج كان في أغلبه یجري ضمن العائلات نفسها، لكن هذه القاعدة لم تكن ثابتة فقد كانت تحصل بین عوائل وعشائر مختلفة أيضاً ولكن بصورة أقلّ، وجدیر بالذكر أنّ الأعمام غالباً ما كانوا یحجزون علی بنات أخوتهم الجمیلات لأبنائهم ولایسمحون بزواجهنّ من الغرباء ممّا قد یؤدّي هذا الشيء أحیاناّ إلی التهدید بسحب السلاح وكانت يحصل أحیاناً شجار یؤدّي إلی وقوع ضحایا في هكذا مواضیع. ونتيجة لهذه العادات بقیت الكثیر من البنات " عانسات" ولم یأخذن نصیبهنّ من الحیاة الزوجیة.


یقول الأستاذ فیصل شیخو معلّم مدرسة مقیم في ألمانیا: "زواج الاقارب يعتبر بالدرجة الأولى موروث إجتماعي وكان یتمّ في دائرة ضيقة ابن العم وبنت العمّ أو مع أبناء الخال والخالة یعني بین أبناء العمومة والخؤولة، و دائرة العشيرة كانت اكبرها. ومردّ ذلك الاحتكاك المحدود خارج الأطر المذكورة بسبب قلة وسائط النقل، وبساطة الحياة وقلّة التوعیة وضعف التعليم ونمط الحياة المتنقلة المرتبطة بتربية المواشي، وكذلك النشاط الزراعي، لكنّ الاستقرار وانتشار التعليم وازدیاد الوعي كان من أبرز عوامل انحسار هذه العادة التي أفتقدت شیئاً من زخمها".


ویقول المواطن مصطفی حسین: " لقد تراجع نسب زواج الأقارب في المجتمع الكردي السوري في السنوات الأخیرة بسبب توسیع الهامش للحریة الفردیة، فیلجأ الشباب إلی اختیار شركاء حیاتهم دون تأثیر أو تدخل الوالدین في الموضوع وذلك لأسباب منها تحسین الظروف الاقتصادیة وتراجع دور المجتمعات التقلیدیة". وكذلك في الوقت نفسه كان لزواج الأقارب أسباب منها: 

  • نجاح هذا النوع من الزواج في أغلبه بسبب حرص الطرفین علی تقدیم كل عوامل النجاح والاستقراره له.
  • توافق الطرفین " العریس والعروسة" كونهما من نفس المنبت والبيئة والثقافة.
  • علاوة علی ارتیاح الفتاة للزواج كونها تعرف العائلة مسبقاً وهي تعرفها. لذلك كلّ هذه الأسباب كانت تشكّل روافع إیجابیة وتوفّر لهذا الزواج مناخ إیجابي ومقوّمات نجاحه واستمراره مقارنة مع غیره.


undefined
ظاهرة خطیرة یجب الحذر منها والإقلاع عنها وتوعیة المجتمع بمخاطرها

زواج الأقارب علمیّاً

علی الرغم من أنّ معظم الدراسات الطبیة في علم الوراثة أثبتت خطورة زواج الأقارب علی صحّة الأبناء وحذّرت من مخاطره إلّا أنّه لا زال موجوداً في المجتمع الكردي في سوریا، ممّا تسبّب ویتسبّب بزیادة التشوّهات الخلقیة بین الأطفال في السّنوات الأخیرة أو ظهور أمراض وراثیة لا علاج منها. ورغم انخفاض نسبته في السنوات الأخیرة بسبب حملات التوعیة الصّحية وكذلك بتأثیر الإعلام إلّا أنّ الظروف الأمنیة والاجتماعیة الجدیدة في سوریا عامّة قد أحیاها نوعاً ما من جدید لأسباب منها حمایة الفتیات من مخاطر أمنیة واجتماعیة، وغلاء المهور في ظلّ الواقع الاقتصادي المتردي، والملفت للانتباه أنّ هذا النوع من الزواج قد زاد حتّی عند الكرد المهاجرین إلی أوربا والدول الإقلیمیة والعالم نتیجة الحرب وذلك حرصاً من العوائل علی تزویج بنتهم أو ابنهم من أحد أفرادها حتّی تحافظ علی نفسها ولا تتعرّض للذوبان والضیاع. إذاً زواج الأقارب في مدّه وجزره یرتبط بالظروف ونمط التفكیر.


وعن مخاطر زواج الأقارب یقول الدكتور أكرم داوود المختصّ في مجال طبّ الأطفال: " لزواج الأقارب مخاطر سلبیة علی المجتمع والأسرة لما تسبّبه في بعض الأحیان من تشوّهات وإعاقات وأمراض وراثیة ناتجة عنه، فهذا الشكل من الزواج یحافظ علی وجود المورثات الطافرة لدی أفرادها وبالتالي احتمالیة استمراریة ظهور هذه الأمراض لدی الأجیال اللاحقة، فیستحسن عدم الزواج بین الأقارب للحفاظ علی العائلة من الأمراض وبالتالي سلامة المجتمع".


وكذلك في الموضوع نفسه یقول الطبیب شیروان حسن مقیم في مدینة الحسكة: " لا یوجد مبرّر یمنع زواج الأقارب لكن من الناحیة العلمیّة في حال وجود أمراض وراثية في العائلة يفضل عدم الزواج فیما بینهم، كون الأمراض ستظهر بنسب عالية مستقبلاً عند الاحفاد، لذلك قبل الإقدام علی أيّ زواج من هذا النوع لابدّ للطرفین من إجراء اختبارات قبل الزواج وكذلك اختبارات الحمل والمتابعة مع الطبیب دائماً لاستشارته، فزواج الاقارب ترفع من نسب ظهور عيوب حاملة لدى الطرفين وبالتالي قد یحمل المولود أمراضاً وراثیة أو تشوّهات خلقیة فیجب الحذر".


undefined


لذا يمكننا القول، علی الرغم من تحذیرات العلم والأطباء وحملات التوعیة من مخاطر زواج الأقارب إلّا أنه لايزال یشكل هاجس القلق في المجتمع الكردي السوري، فالكثیرون لا یكترثون بالمخاطر الناجمة عنه، فلا زالت هذه العادة مستمرّة وإن انخفضت معدلات الإقبال علیها في السنوات الأخیرة، فعلی الرغم من نجاح بعض هذا النوع من الزیجات إلّا أنّ هناك حالات كثیرة منها أدّت إلی ظهور أمراض وراثیة وصحیّة لذلك فهي بكلّ الأحوال ظاهرة خطیرة یجب الحذر منها والإقلاع عنها وتوعیة المجتمع بمخاطرها.