مناهضة العنصرية وبروز المجتمع المعرفي

مناهضة العنصرية وبروز المجتمع المعرفي

إن صناعة الحرية ترتبط بشكل فعلي بثورة الرجل والمرأة على حد سواء، المعرفيين الحقة هو لأجل محو آثار الدونية والشعور بالنقص أمام المتفوق أو المنتصر الحامل لمقاليد السلطة والمهدد بها انتماءات الآخرين، ولابد من فهم تلك الثورة انطلاقاً لحاجة قصوى في ترميم الإنسان درءاً للخلل المرافق لعملية أدلجته وقولبته بما يتناسب ومنهاج السلطة ، ففهمنا للإشكاليات العميقة للمجتمع وإيماننا بنجاعة تغييره ورفع الدونية عن المرأة الشرق أوسطية يشكل باعثاً لتوليد الأفكار ونشوء الشخصية غير المرتهنة، فالفرد ينظر لأمه ، كمثال في بداية نشأته، وينظر للآلة السلطوية الباطشة كيف تعمل في تربية البشر على مذهب الاحتراس والخوف، فتعمد لإلهاء الذهن عبر البطالة والفقر وإهمال الخدمات، ونشر الفساد كطريقة لشيوع الفوضى الاجتماعية، لهذا نجد المعرفيين إلى جانب المعرفيات ، منقسمين يلاقون مصائرهم فرادى، لا تجمعهم مؤسسة، ويعانون التشتت الذي من شأنه إضعاف حيوية الأمة، وجعلها تتخبط في أتون شقاقها وانقسامها السياسي، والذي فرضته النظم الشمولية عبر الخوف أو شراء الذمم، فالمعرفي الحر يؤمن بسلوك الاحتجاج والدعوة للمناهضة كطريقة للصحوة ويقظة الخائفين، وتشكيل نواة لمشاريع بوسعها إيلاء الأفراد المساحة الكافية للنهوض، والتخلص من دونية الإحساس لدى المرأة والرجل على حد سواء يبدأ ببعث نهضة المعرفيات القادرات على مشاركة المعرفيين مهامهم المصيرية في قيادة المجتمع وتربية الجيل على مذهب التحرر الفردي من سلطة الإيديولوجية الحزبية أو السلطوية في الهرم الأعلى، عبر الإشادة بالمعرفي الحر ، والكف عن تمجيد القائد الواحد، بغية إنتاج قادة يخدمون ويعملون بصمت.

يتحول قسم منهم إلى مشاريع مرتهنة تجامل وتحابي السلطة

فالاحتكار الايديولوجي هو محاولة لقولبة اليقين وتجميله بوصفات واجتهادات يحاول الأتباع إلباسها ثوب الحقيقة التي لا تحتمل الجدل، بينما يتصدى المعرفيات والمعرفيين لتلك المحاولات تاريخياً ، وقضى غالبيتهم نحبهم جراء محاكم التفتيش التي امتهنت تعذيبهم وحرق مؤلفاتهم، فمهما تعنت المؤولون في تجميل السلطة وإلباسها ثوب المصلحين والفلاسفة إلا انهم فشلوا.

إن انقياد الجماهير الأعمى لدعاية القائد المبجل والحكيم تأصيل للمفسدة الروحية والتشويه الفكري عبر شرعنة الانقياد واعتباره واجباً وطنياً، وبذلك يصبح المعرفيون في خطر كبير، ينقسمون ويتشظون ويصبح من الصعب جمعهم على كلمة ورأي، يتحول قسم منهم إلى مشاريع مرتهنة تجامل وتحابي السلطة رغم كراهيتهم المبطنة لها، والبعض الآخر ينسحب تماماً من المشهد، عبر مغادرة الموطن ، أو الصمت ، أو أحياناً المغامرة دون تنسيق وإمكانيات تقدم للتغيير.


 فالمضطهد يحمل ذاكرته معه أينما ذهب، والذاكرة تعتبر وعاء يختزل كل مشاهد وأحداث المرء داخل وطنه وخاصة مراحل نشأته الأولى، لهذا فذاك يخبرنا ان العالم وإن صنف جغرافياً بين شرق روحاني وغرب عقلاني، إلا أن وفود الجماعات واختلاطها لن يبقي الجغرافيا مستقرة ولا مصادر المعرفة بل سيصبح كل شيء في فلك الاندماج مما نجد أن التغييرات النفسية ستنشط نحو الانفتاح بين الثقافات وتصبح الجغرافيا في ظل ثورات التواصل الاجتماعي مفتوحة (الفيسبوك, تويتر, انستغرام, يوتيوب, واتس آب) أمام شتى الانتماءات الجديدة التي قد لا تستطيع الخطابات العنصرية ومن يروج لها ، الحد من هذا الاندماج والتلاقي.

أنا لا أشك أبداً أن الزنوج وجميع أنواع البشر هي بالطبيعة في مستوى أدنى من الإنسان الأبيض

 إن التسلط الممارس على المجتمع ، لا ينفث إلا سمومه في أذهان الأفراد، ليجعلهم ضحايا للعبة الفرار، والهروب من حالة التصادم.


العنصرية كتيار رافض للتعايش المشترك يعتبر من مخلفات الحروب والنزاعات الأهلية التي تنشأ بين الأكثرية والأقليات، وله آثار نفسية مزمنة في دواخل الناس ممن يعانون من القمع، لعل الهجرات الناجمة عن الاضطهاد السياسي تتصل حقيقة بتنامي العنصرية كمبدأ حياة تتبناه الأحزاب أو الدول الباحثة عن امتيازات أكبر واستحقاقات نابعة من اعتقادها بأنها صاحبة المجد التاريخي والمؤهلة دوماً للريادة في كل حقبة أو مرحلة ، إذ تشكل العصبوية كمناخ ملائم لنمو العنصرية والشعور بالمغايرة عن باقي الألوان الاجتماعية أو القلق على الثقافة والسلطة ومركزية الحكم، فخوف الأتراك من الكورد في اعتقادهم يكمن في أن الكورد يشكلون خطراً على الأوطان التي تقسمت جغرافية أرضهم التاريخية فيما بينها، ليكون الكيان الكوردستاني بمثابة الكابوس الذي يجب اتخاذ تدابير دائمة في مواجهته، واجتثاث محاولاته لإنشاء الكينونة على الدوام، لهذا فالعنصرية الشرق أوسطية تعادي الديمقراطية وتدعم الدولة القوموية الاستخباراتية ، تلك التي ما تلبث أن تقحم الدين بصبغته المذهبية كوسيلة للحكم وضمان ولاء الغافلين أو المنتقدين عبر بوابة الإسلام السياسي، فالعنصرية الأوروبية جاءت كرد فعل عن الهجرات الوافدة لبلدانها، ونعني بها العنصرية الحديثة التي تتنامى ببطء مع مرور الزمن ولاشك أن الحرب الأهلية في سوريا، توقظ النزاعات خارجها، إن في تركيا أو إيران أو حتى عموم العالم العربي والبلدان الإسلامية التي تعاني من الفقر والفساد والبطالة ، حيث تشكل بنية خصبة لتنامي الجماعات الإسلامية العابرة للحدود.


 أما المسير باتجاه مناهضة العنصرية يكمن في معرفة اللغات والتواصل مع الشعوب ،حيث أن فكرة تقسيم الناس إلى فئات عليا وأخرى دونية ، رغبة ممنهجة لتبرير الصراع وتغليفه إيديولوجياً، ليكون الطريق للاحتلال والسيطرة أكثر يسراً، فلا مبرر منطقي لما قاله الألماني119 عمانوئيل كنط 1724-1804 حينما أضاف لنظريته المعرفة، حين قسم الأجناس البشرية حسب اللون وجعل أكثر الأجناس تطوراً وذكاء ومساهمة في بناء الحضارات هي الأجناس البيضاء ، تليها الأجناس الصفراء ثم الأجناس السوداء ثم تأتي الأجناس الحمراء والهنود الحمر وشعوب القارة الهندية كأسوأ الأجناس ذكاء وأقلها تطوراً حسب تعبيره، فالفلاسفة المرتهنين لأجندت سلطاتهم أعطوا مسوغاً للهيمنة والتوسع ، فنجد الانكليزي1120 ديفيد هيوم 1711-1776 بإقصاء الأعراق غير الأوروبية فيقول : “أنا لا أشك أبداً أن الزنوج وجميع أنواع البشر هي بالطبيعة في مستوى أدنى من الإنسان الأبيض" وقد ذهب يوجين فيشر 1874 -1976 لفكرة تعقيم البشر والقتل الرحيم للمعوقين وإبادة اليهود، فهذه المواقف المظلمة لا تمت لحقيقة الإنسان المعرفي في شيء وإنما تتجه عكس سفينة الإنسانية والسلام الإبداعي الذي نعني به تشييد أعمدة الفنون والصناعات والإبداعات لأجل العيش الإنساني المنصف وتحقيق التمنية لما فيه من خير كافة الطبقات والشرائح وحماية مكتسبات الإنسان العاقل في كافة أنحاء الوجود المتقن.

تنوع الثقافات الإنسانية يجب ألا يتم إدراكه على نحو ساكن، لأن المجتمعات البشرية ليست وحيدة ، وعندما تبدو في أقصى درجات الإنفصال ، فإن ذلك يأخذ أيضاً شكل الكتل أو المجموعات

لقد تخطت أوروبا فكرة عدم التزواج من الشعوب الأخرى وذلك بعكس ما ذهب إليه الفرنسي121 آرثر غوبينو 1816-1882 والذي كان يعتقد أن اختلاط الأعراق وتزواجها هو السبب في انحطاط الحضارات، حين يقول : „الآرية تنحدر عبر الاختلاط بالفنون الزنجية" نجد اليوم أن الاندماج وتعدد الثقافات والحضارات تسهم في إطلاق العنان للمواهب والأفكار والبروز في العالم بلا حدود أو قيود، حيث نجد المعرفي البريطاني122 تشارلز داروين 1809-1882 في كتابه أصل الأنواع، قد طور نظريته ، حيث رفض تقسيم الناس إلى فئات عليا وسفلى ، لهذا فإن المعرفيين الذين يعملون مداركهم ومواهبهم لمجتمع معرفي أفضل هم الذين يتمتعون بكامل الخصائص التي تحيلهم للبقاء والتفوق، لتكون الفئات المتخمة بسموم التطرف الديني أو القومي ، محكومة بالكسل والدنو الأسفل، والتي باتت عبئاً زائداً في الوجود ، وهي تقتات على الكراهية والعنصرية وأحلام التفوق المادي العرقي، فهم من رواد التوحش والمذابح الجماعية والتهجير القسري، ولا يستطيعون التعامل مع الاندماج بروح عصرية، كونهم فئات ابتعدت عن المعرفة مقرونة بالأخلاق، فالبقاء للمعرفيات والمعرفيين مما يزيلون العوائق عن طريقهم ويؤمنون بمبدأ الاتحاد بين الرجل والمرأة، دون تبعية ودونية، فالبقاء للمبدع خلاص للوجود، ونهاية للتسلط والتآمر على العقل من بوابة صناعة الخوف، وقد اعتبر القوميون الشرق أوسطيون من عرب وفرس وترك ومن على شاكلتهم الشعوب التي يحكمونها على أنها عصابات تتبع الخارج، وينبغي اجتثاثها وقمعها أو صهرها في بوتقتها، فها هو المعرفي جورج طرابيشي 123 يقول: „ ثمة منظرون قوميون ذهبوا إلى إنكار واقعة الأقليات إلى حد اعتبارها من صنع الاستعمار، فالأقليات لا ماهية لها في ذاتها، بل هي في أحسن الأحوال مجرد رواسب تاريخية، بل مستحثات ينبغي أن تخضع من جديد لقانون التفتت والذوبان ثم الاندماج،  وهي ليست بحال من الأحوال علامة تنوع ومصدر غنى حضاري" هكذا تمت تجزئة المجتمع ، وتم بث الرعب في حياة الناس، وتجسد العنف كغطاء عام ارتدته السلطة القومية كالنقاب.


لقد انتصر المعرفيون الأوروبيون لحكمة التنوع والتلاقي الإنساني والتبادل الثقافي بين الأمم، انتصاراً لقيم الإنسان العاقل في الوجود فنجد المعرفي الفرنسي124 كلود ليفي ستراوس 1908-2009 يصوغ نظرية العرق على نحو مضاد فيرى : „تنوع الثقافات الإنسانية يجب ألا يتم إدراكه على نحو ساكن، لأن المجتمعات البشرية ليست وحيدة ، وعندما تبدو في أقصى درجات الإنفصال ، فإن ذلك يأخذ أيضاً شكل الكتل أو المجموعات " حيث أن ذلك تأكيد على انتصار قيم التنوير مقابل هزلية وهشاشة مزاعم العنصريين وضيق أفقهم .