مستقبل الإسلام السياسي في كردستان سوريا(الحلقة الثانیة)

مستقبل الإسلام السياسي في كردستان سوريا(الحلقة الثانیة)

ما إنْ بدأت أركان أنظمة الاستبداد تتهاوى وتتزحزح في المنطقة في ظلّ ما يسمّى بـ(الربيع العربي وثوراته) حتّى بدأ الحديث يكثر عن البديل المستقبلي لهذه الأنظمة, فسارعت هذه الأنظمة إلى خلط الأوراق, ونشر الفوضى والرعب في كلّ مكان, ورسم لوحة قاتمة للمستقبل بغض النظر عن هذا البديل, فسرعان ما استعانت بالقوى الظلاميّة التكفيرية التي أشرفت هذه الأنظمة على ترويضها في أقبيتها الخاصّة والسرّيّة طيلة حكمها, ليستنجد بها في الوقت المناسب, وليظهر للعالم بأنّ البديل سيكون وبالاً على الجميع ولن يستثني أحداً, وبالفعل فما إنْ بدأت هذه الثورات حتّى بدأت موجة الصعود للحركات الإسلاميّة مثلما حدث في تونس, وليبيا, ومصر, واليمن, وسورية, وكان في بادئ الأمر هناك تعاطف شعبي نسبيٍّ مع هذه الحركات, ليس حبّاً بها, بل كرهاً بأنظمة الاستبداد فربّما تكون فرصة لتقويض دعائمها ومحاولة للتخلّص منها, فوجدت هذه الحركات الأرضية الخصبة لها لتفوز في بعض المناطق بالمرتبة الأولى لدى المواطنين, لكنْ سرعان ما بدأ الناس ينفرون من هذه التنظيمات الإرهابية التي تعتمد في حكمها على مفاهيم بعيدة عن الواقع مستمدّة من التراث السلفي الإسلامي, لا تتلاءم مع المفاهيم الحديثة وروح العصر, طبعاً, لا يُغفل أنّ الأنظمة الحاكمة لعبت دوراً رئيساً في تخطيط وتنفيذ الكثير من الأعمال الإجراميّة التي قامت بها تلك المجموعات الإرهابيّة من خلال تجنيد منظومة استخباراتية من العملاء بين هذه المجموعات, وذلك بهدف فشل تلك الثورات وحرفها عن مسارها وبالتالي تشويهها أمام الرأي العام المحلّي والعالمي, وبالفعل نجحت تلك الأنظمة في مسعاها, واستطاعت أن تستغلّ إرهاب تلك المجموعات لمصلحتها واستخدامه كورقة ضغط أمام الرأي العام العالمي للوقوف غلى جانبها, كما حصل في سورية, فقد وصلت الأعمال الإرهابيّة إلى ذروتها في بعض المناطق من خلال المفخخات والمتفجّرات االتي حصدت أرواح آلاف الأبرياء, علاوة على ذلك فقد نسبت تلك الأنظمة في الكثير من المرّات أعمالها الإجراميّة إلى تلك المجموعات التكفيريّة التي لم تتردّد في تبنيها نظراً لاختراقها من قبل تلك الأنظمة, لكن مايثير التساؤل هو أنّ المنطقة الكردية في سورية ظلّت خارجة عن سيطرة تلك الجماعات الإرهابية على الرّغم من من محاولاتها المتكرّرة لاختراقها عسكرياً وفكريّاً, لكنها لم تفلح في ذلك, فظلّت عصيّة في وجه تلك الجماعات التكفيريّة التي حاولت بشتّى الوسائل السيطرة عليها, لكنّها فشلت أمام المقاومة الكرديّة ولم تجد الحاضنة الشعبيّة لها, وهذا ما كان يلفت انتباه كلّ المحلّلين والمتابعين للوضع السوري عامّة والكردي على وجه الخصوص.


لا أجد أيّ مستقبل للإسلام السياسي بين كرد سورية

فكما هو معروف أنّ غالبية الكرد في سورية مسلمون, إلأّ أنّهم  بخلاف الإسلاميين من غير الكرد في طريقة ممارسة شعائرهم الدينيّة, فهم لا يرون أّنّ قوميتهم تتناقض مع ديانتهم, فالإسلام ينتهج عندهم منهج الوسطية والاعتدال يحترم كلّ الخصوصيات: القوميّة, والدينيّة, والفكريّة, فهم يرون أن الخصوصية القوميّة هبة من عند الله لعباده, ويجب عليهم الحفاظ عليها وتطويرها باعتبارها فلسفة إنسانيّة وحضاريّة, وفي ضوء ذلك نتساءل هل هناك مستقبل للإسلام السياسي بين كرد سورية؟


للإجابة على السؤال: نؤكِّد بأنّ الساحة الكردية في كردستان سورية لم تشهد طوال القرن المنصرم تنظيمات سياسية دینیة قطُّ, فالكرد ومن خلال أحزابهم السياسية ونضالهم السلمي قد ساروا على خطا العلمانيّة, ولا يحبّذون خلط الدين بالسياسة, ولعلّ تجربة الكرد مع التنظيمات الإسلاميّة في سورية كـ(داعش – وجبهة النصرة..)التي هاجمت المناطق الكرديّة وتصديهم لها تؤكّد ما ذهبنا إليه, فهم ينفرون من الإسلام السياسي الذي لا يجلب سوى الدمار بسبب ممارساته العنيفة كما حصل عندما هاجمت تلك المجموعات مدينة (كوباني) وغيرها, وأعتقد أنّ الكرد في سورية وإنْ وصلوا في المستقبل إلى مستوى الدولة أو إدارة كيان لهم في سورية فإنّهم سوف لن يحبّذوا أسلمة الحكم, لأنّ الإسلام- اليومَ- متعدّد الملل والطوائف والاتجاهات, ويكرّس في الوقت نفسه النمطيّة في شكل الحكم والتعامل المجتمعي, وهذا لا يتواءم مع العقليّة الكرديّة التي تتوق إلى التنوّع وقبول الآخر المختلف, ولا بدّ أنّ نشير كذلك أنّ الكرد كشعب بقي طوال التاريخ الحديث من دون دولة, ولم يتجاوزوا مرحلة القبيلة البدائية, لذا بقي أسير تلك العقلية لمدّة من الزمن ولم يتّأسس لديه عقلية الدولة والمؤسّسات, ولم يتبلور لديه مفهوم الإسلام السياسي كفكر ينظّم علاقات أفراد المجتمع, وعلى هذا نستطيع أن نقول إنّ ما انتشر في المجتمع الكردي من طرائق ومدارس دينيّة ومرجعيّات كانت بمثابة بمثابة منظمات المجتمع المدني اليوم لم تكن لها أية دوافع تعصبيّة, فقد كانت تهدف إلى تغذية الجانب الروحي للإنسان الكردي بدافع الحفاظ على الوجود, بخلاف نشوء وتطوّر الإسلام تاريخياً عند الفرس والعرب والترك, الذين استغلّوا الدين لبناء كياناتهم وإمبراطورياتهم, ولكي نستشرف مسستقبل الإسلام السياسي أكثر في كردستان سورية, نستطيع أن نقول: بأنّ الشخصيّة الكرديّة ترسّخت فيها عَبر التاريخ ثقافة السلام لا ثقافة الغزو والإرهاب, لذا ففكرة العنف لتي تتبنّاها بعض الاتجاهات الإسلاميّة مرفوضة في ثقافته, لكنّه في الوقت نفسه لا يتردّد في صدِّ وقتال كلّ من يحاول أن ينال من وجوده, فهو يؤمن بالاسلام الاجتماعي المعتدل الذي يشكّل مكوّناً من مكوّنات شخصيته خلال بنيتها المتحوّلة, ويراه مغذّياً للجانب الروحي وتقويماً للسلوك, ولا يراه شكلاً للحكم أو السلطة, لذا لا أجد أيّ مستقبل للإسلام السياسي بين كرد سورية لأسبابٍ:

  • عدم قدرة التنظيمات الإسلاميّة وعجزها عن التكيّف مع مفاهيم الديمقراطيّة والحداثة التي أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من حياة المواطنين في كردستان سورية.
  • تضييق الإسلام السياسي على الحرّيّة الشخصية من خلال استخدام أساليب التهديد والعنف في كثير من الأحيان لإجبار الناس على الرضوخ للقوانينهم التي لا تتماشى وروح العصر, من قبيل إجبار الفتيات على لبس الحجاب, أو منع الشباب من لبس البنطال...إلخ.
  • إيمان الكرد في سورية بالاعتدال والوسطيّة في تديُّنهم, وهذا ما ينسجم إلى حدٍّ بعيد مع مشروعهم الوطني والقومي.
  • إيمان الكرد بالمبدأ العلماني وضرورة فصل الدين عن الدولة, فيرون أنّ العبادة أمر يتمّ بين العبد وربّه, أمّا ممارسة ومتابعة الشؤون القوميّة فهي تتمُّ عَبر السياسة.
  • الإسلام الراديكالي ذو طابع عروبي بحت- وهذا ما عانى منه الكرد سنوات طويلة- يسعى إلى محو الثقافات الأخرى وتذويبها في بوتقة العروبة, مخالفاً بذلك النصّ القرآني: :" ومن آياته اختلاف ألسنتكم وألوانكم....".
  • الإسلام الكردي السوري متسامح يحترم الطقوس الدينيّة الأخرى ويرفض الإقصاء والتهميش.    

  

الإسلام السياسي لا يمكن أن يكون شكلاً لنظام الحكم في إدارة شؤون الناس, لذلك يجب عدم الخلط بين الدين والسياسة

وصفوة القول: إنّ الإسلام ليس كياناً فكرياً متجانساً في أيِّ بلد فهو يتكوّن من أطياف وألوان لا حصر لها, فهناك الإسلام المعتدل والإسلام المتشدّد والإسلام الاجتماعي والسياسي والتكفيري, علاوة على تعدّد طوائفه ومشاربه, فكلّ ماسبق يوضّح حقيقة وهي إنّ الإسلام السياسي لا يمكن أن يكون شكلاً لنظام الحكم في إدارة شؤون الناس, لذلك يجب عدم الخلط بين الدين والسياسة ليبقى الدين شعاعاً نيّراً يسهم في إغناء الجاني الروحي والقيمي عند الإنسان, وعلى العموم فإنّ الكرد يفتخرون بتديُّنهم المعتدل, وعلى الرّغم من أنّهم يتبنون منظومات فكريَّة علمانيَّة بعيدة عن الصبغة الدينيّة إلّا أنّهم يرون بأنّهم أفضل الشعوب التي عرفتِ الإسلام كما أمر الله ورسوله.