هجـار موكریاني وهكذا في سوریا أصبحَ اسمي عبد الرحمن حسن.

هجـار موكریاني وهكذا في سوریا أصبحَ اسمي عبد الرحمن حسن.

من العراق توجّهتُ إلی كورد سوریا فنزلتُ عند عائلة حاجو، فقالوا لي لاتذهب إلی وسط القرية، فهناك مركز الشرطة، وسیقبضون علیك، كابدتُ الحزن ثلاثة أيام، فلم أتحمّل فذهبتُ إلی المقهی، فكان مدیر الشرطة جالساً هناك:

- ألا تأتي إلی مركز الإدارة؟

- بلی، لا بأس سآتي.

- ما أخبار العراق؟

- لماذا الوضع سيء هناك؟ لماذا الشرطة ظالمة؟ نوري سعید ابن الكلب، ألا تتحدّث لنا عن ذلك؟

مدیر الشرطة هذا اسمه عبد، عربي من حلب، كان یتحدّث الكُردیة جیّداً، وعندما رأوني آل حاجو معه كانوا قلقین، فتحسّنت العلاقة بیننا، فأنا أريد أن أحصل علی الجنسية، أن أصبح مواطناً، قال عبد: سأساعدك قدر المستطاع، لكن الحصول علی الجنسية یتطلّب جهد وتعب شدیدین.

قدّمتُ عريضة بأنّني من تركیا ومن أهالي الجزیرة، ولا أملك الجنسية، امنحوني إيّاها، أذهبُ إلی القامشلي والحسكة كل یوم، أجتاز آلاف الحفر والمطبّات، يكاد لساني يخرج من فمي لاهثاً في كلّ مرّة وهكذا أعودُ، فقد أصبح الملف سميكاً جدّاً لدرجة كان يثیر الخوف، خذه إلی الشام، إنّها علی بُعد 1050 كم بالسّیارة، نصف الطریق تراب وغبار الصحراء، فخلال عدّة أیام في الشام تجوّلتُ ومررت بمئات الإدارات فكدتُ أموتُ من التعب والهلاك، فأخبروني أن أعودَ إلی القامشلي، وأدبّر شاهداً یعترف بأنّ قبرَ أبي في قرية معشوق ویجب أن یكون الاعتراف موقعاً من قِبل الشرطة، كان چاچان آغا یقول: " لا أفهم هل أصبح قبر أبیك مرقد الرسول موسی؟! یریدونه للزیارة!".

مرّة أخری وأنا علی الطریق ذهاباً وإياباً بین مدینتي قامشلي وديریك، حتّی أنّ شرطة چل آغا كلّهم أصبحوا یعرفوني، فعندما كانوا یروني كانوا يضحكون من كثرة جولاتي هناك، فقال رئیس مركز چل آغا: " علی ذمّتي سأعطیك الموافقة، وأردف قائلاً أنا وشرطة المركز سنوقّع بأنّ قبرَ أبیك في معشوق وكنّا حاضرين أثناء مراسم الدفن".

تمّ إرسال الملف إلی الشام، وفي الشّام یقولون: الملف ناقص، ویجب أن تذهبَ شخصیاً، یا إلهي مرّة أخری سأسافر مسافة 2100 كم وهو یقصد ذهاباً وإیاباً في الحرّ الشدید والغبار، سأبحث من دفتر لآخر عن الخطأ، في سبیل وبعد جهد تعب أن أصل في قیظ الظهر إلی ذلك الموظف الكبیر.

- ملفك غیر كامل.

- قوربان، ماذا ینقصه؟

- ینقصه طابع بقرش واحد.

- من أجل طابع وشاهد أستحقّ كلّ هذا العذاب، الأغا المحترم ألم یكن بإمكانه وهو یعرف صعوبة الذهاب والإیاب ومشقة السفر أن یكتب اسم شاهد واحد؟

- لماذا كنتُ سأصرفُ نقودي؟ كنت قد كتبتَ اسم شاهد واحد وانتهی.

وجّهوا ملفي نحو الحسكة، فالمسافة من الشام إلی حلب 400كم، ومن حلب إلی القامشلي 600 كم، هناك بعض البقع الاسفلتیة وقسم كبیر صحراء حتّی الخنازیر تختنق من غبارها. الرحلة في كل یومّ فقط هناك سیارة واحدة باسم "الباص"، ویجلب أيضاً البرید مع المسافرین.

في الصباح الباكر لم تشرق الشمس بعدُ، كنتُ راكباً في السیارة، ووضعتُ ملفي في حضني وفي مقهی الرّقة نزلنا للاستراحة وتدرجتُ قلیلاً وعندما عدتُ، قالوا لي" الباص" قد غادر.

- ماذا؟ آه لقد تدمّر بیتي، الملفُ الذي تعبتُ وراءه لمدّة أكثر من ستة أشهر قد بقي في السیارة، ماذا سأفعل هذه المرّة؟

اركض في الشوارع، بدأت أنفاسي تتقطّع، ارفع یدك، اصرخ إنّها السيارة بعیدة، لا یصلها صوتي، كنتُ أتقدّمُ، وفجأة رأیتُ السیارة توقّفت، أصبحتُ علی حالِِ يرثی لها: " آخ، هل من المعقول سمعوا صوتي حتّی السیارة توقّفت"، وصلتُ إلی السيارة وعرفت أنّها توقّفت بسبب طفل صغیر كان قد وسّخ نفسه لینظفوه أهله، فأنظرُ إلی الملف والعرق ینزل من جبیني، وقد تسارعت دقّات قلبي بقوّة، وهكذا ركبتُ الباص، وقلتُ للسائق: أخي لماذا تركتني؟ حتّی الله لا يقبل هذا الشيء.

- علی أي كرسي كنتَ؟

- هنا.

- فقام السائق من مكانه، ورافقه معاونه، ومسكا بكتف الشخص الذي كان جالساً إلی جانبي وكان من البدو العرب (ماذا أكلتَ؟ الحامض والشوندر) وصفعوا وجهه بضربة قوية، فداخ علی الفور وبدأ الدم ینزل من فمه ورموه من باب السیارة.

- كلب ابن الكلب، یجب أن يبقی في هذه الصحراء، فقبل أن یتحرّك الباص نادیتُ أربع مرّات، هل كلّ المسافرین في الباص؟ قالوا نعم. فقلتُ لابن الكلب هذا: أین الأخ الذي كان بجانبك؟ فقال: إنّه قال سأبقی في الرقة ولن أكمل السفر، یبدو أنّه طمع في الملف ظانّاً بأنه قد یحتوي علی نقود، وصرخ علیه السائق صرخة شدیدة قائلاً فإن لم تتوقّف السیارة، ماذا كان سيفعل هذا المسكين؟

ومن ثمّ تدخلنا فترجونا أنا وبعض الأشخاص الآخرین، أن یسامحه بعد أن أكل عدّة كفوف أخری من ید السائق ومعاونه.

كان الجوّ حارّاً، وغبار السیارة یعلو الأفق، ضاقت نفسي كثيراً، ففتحتُ نافذتي، دخل الغبار إلی السيارة، ومن فوق رأسي قال رجلُُ:

- اغلق.

- لا أتحمّل الحرارة، أريد أن یدخل الهواء.

- أغلقها لقد متُّ من الغبرة.

- لا أغلقها، غيّر مكانك، أو بإمكانك أن تنزل رأسك قلیلاً.

- ماذا تقصد؟

- فقلتُ له: وماذا تقصد أنت؟

هذا الكلام بیننا كاد أن یكون كبداية صراع بین دیكین.

- إذا قمتُ سأنهیك.

- إذا قمتُ سأزعجك كثیراً.

- هیّا قم.

- لماذا أنت جالسُُ؟

استغرب الأخ، فنهض وقال: ألست ب هژار.

- بلی.

- لا أرتكبُ أخطاء كهذا مع أيّ شخص. لكن ألا تقول لي: أنت مطلوب في إیران، وكذلك مطلوب في العراق، وفي سوریا لا أحد لك وحتّی لا عشيرة هنا، كیف تتجرّأ علی تحدّي الناس ومقاتلتهم؟

- في النهاية نحن في هذه الدّنیا، فأعطیتُ جوابي ودافعتُ عن حقّي، والله لو قمتَ كنتُ سأرقص بحذائي علی بطنك.

ذهبنا إلی إدارة النفوس، كان هناك ضابطُُ يكتب المعلومات، لم يقبل اسم آگري وقال: يجب أن یكون اسماً عربیّاً. فقلتُ له: إذا سمّیته كِلاب فما رأيك؟ فقال: إنّه اسم جمیل، اسم أحد أجداد النبيّ.

- وصلنا إلی الحسكة، كان قرابة ستین حمّالاً كوردیاً من ذوي الزنود والأكتاف القوية في استقبالنا والترحیب بنا وتقديم المساعدة، البطیخ والعنب وهدایا أخری قدّمت لهم، خفتُ عندما نادی أحد الحمّالین ذاك الشخص الذي تخالفنا، هذا أخي متیني رئیس المتینيین النازحین السوریین واللبنانیین، إنّهم عشیرة وبهذا الاسم، ومنذ ذلك الحین أصبحنا أصدقاء والآن هو في بیروت، أرسلُ له سلامي.

- في الحسكة تمّ تحويلي إلی لجنة نظامیة لتقدیر عمري، أربعة ضباط كبار تلتمع أكتافهم، نظروا إليّ.

- لا تكذب، عمرك لا یتجاوز أربعین عاماً، ترید ألّا تخدم العسكرية، قل بصدقِِ كم عمرك؟

- قوربان، لقد أرسلوني إلیكم، كونكم اختصاصیون وتعرفون بالأعمار، إن اعتمدتم علی علمكم ستعرفون أنني أقول الصدق أم لا.

- ضحكتُ من طرفة: نهض أحدهم، وقال عندما تشتري الحمار انظر إلی مؤخرة أذنه من جهة الكتف.

- لا أكذبُ فعمري اثنان وأربعون عاماً وعدّة أشهر. وفي النهایة كتبَوا اثنان وأربعون. (لكن في الحقیقة عمري حینها كان ۳٦ عاماً).

- اذهب إلی ديریك، ستصدر المحكمة قراراً، واحصل بعدها علی الجنسية.

عدتُ إلی تربه سپییێ، وسردتُ كلّ رغباتي وطلباتي كتابة.

- فكتبتُ أنّ زوجتي اسمها "معصومة محمد"، وابني اسمه "محمد"، وابني الصغیر اسمه "آگري"، ولكن في الحقیقة عائلتي وأولادي كانوا في بغداد، فماذا أفعل؟

المدعو حمه شریف حاجو الذي كان یعمل إدارياً عند حسن آغا وصل علی الفور إلی ديریك وعاد، فقد أرضی حاكم دیریك بالرشوة" برتیل"، وقد استخدم كلّ ثقله لیأتي إلی البیت للاستجواب، لكن قال یجب أن تكون الزوجة والأولاد حاضرون.

- كیف سنؤمن الزوجة مع الأولاد؟

- فقال لي حمه: ستأتي امرأة من عشيرة كۆچر، وستعرّف عن نفسها للقاضي بأنّ اسمها معصومة بنت محمد ونازي، زوجة عبد الرحمن حسن، وأمّ لـ محمد وآگري، فعلاً كانت امرأة ذكية، فحفظت المعلومات خلال مرّتین أو ثلاثة من التكرار، وحضرت طفلاً في حضنها، وكان المطلوب شاهدان من الرجال، واحد منهم كان محمد شریف، والثاني كان اسمه عزيز معروفاً من قِبل بیت حاجو وقد تدرّب علی حفظ علی المعلومات وأتی بولد عمره 10 في مكان "محمد"، فالمرأة حتّی الآن لا أعرف ماذا كان اسمها؟ مع ابنها وأنا ومحمد شریف ركبنا السیارة وذهبنا إلی دیریك بیت عزیز" الشاهد الثاني" فعلّمنا عزیز ومرّنناه لیكون شاهداً، وولده عمره عشر سنوات اسمه محمد علّمناه إذا سأل الحاكم أین والداك؟ أشر بیدك إليّ وإلی المرأة وقل: إنّهما أبي وأمي.

بعدَ السّاعة الثانية أتی الحاكم فكان محمد شریف علی الدوام یقول لي: أعطِ الجواب جیّداً سيدا، ویقول للمرأة: أخشی أن یتلعثم لسانك وتنسی وتقولین: ماذا؟ ویقول لـ عزیز انتبه جیّداً إلی حالك ولا تغلط.

وبعد أن شرب الحاكم القهوة، أذنَ لنا بالدخول لاستجوابنا.

- اسمك؟ عبد الرحمن.

- أبوك؟  حسن.

- أمّك؟ فاطمة.

- عمرك؟ ٤۲ سنة.

- مكان الولادة؟ معشوق.

- أین زوجتك؟ ها هي. (أشرتُ بیدي إلی المرأة).

        ٭٭٭

- اسمكِ؟ معصومة.

- أبوكِ؟ محمد.

- أمّك؟ نازي.

- زوجة مَن؟ هذا الرجل اسمه عبد الرّحمن.

- أولاد؟ محمد (الذي هو في الحقیقة كان ابن عزیز الشاهد) وئاگري الصغیر.

وقد أجابت المرأة بكلّ ثقة وجرأة من دون شبهِِ، ومن ثمّ جاء دور الشاهد عزیز وقد أجاب أيضاً بكلّ ثقة، وجاء دور حمه شریف الذي نسي بعض المعلومات.

- اسمك؟ حمه شريف حاجو.

- اسم هذا الرجل؟ عبد الرحمن.

- اسم أبیه؟ ها، هه أعذرني نسيتُ.

- اسم أب عبد الرحمن، ما اسمه؟ صدقني لم أعد أتذكر.

محمد شریف! أنت محمد شريف حاجو یعني اسم أبیك حاجو، إذاً عبد الرحمن حسن ما اسم أبیه؟!

- قوربان، كنتُ أعرفُ، لكن الآن لم أعد أتذكر.

فضحك الحاكم وقهقه، وقال :

- بابا، شهودك مقبولون، وكلّ شيء علی ما يرام. وقد أعطانا الورقة لنأخذ الجنسية، لعدّة أیام ونحن نضحك علی ما جری، المرأة الكوچریة كانت لغتها فصیحة وواضحة، ومحمد شریف الذي كان یسقي الورود علی الدوام، لكن الرشوة هي من أنقذتنا وأنجح عملنا.

ذهبنا إلی إدارة النفوس، كان هناك ضابطُُ يكتب المعلومات، لم يقبل اسم آگري وقال: يجب أن یكون اسماً عربیّاً. فقلتُ له: إذا سمّیته كِلاب فما رأيك؟ 

فقال: إنّه اسم جمیل، اسم أحد أجداد النبيّ.

- طیب "شێر" ما رأيك فيه؟ يعني أسد.

- غیر مقبول.

- طیب، اكتب مصطفی. وهكذا أصبح اسمي عبد الرحمن حسن.


undefined


حیـاته

  • ولد المفكّر والأديب الكردي واللّغوي والشاعر الكبیر عبدالرحمن شرفكندي في مدينة مهاباد عام 1921.
  • أهتم منذ نعومة أظافره باللغة الكردية ودرس الأدب الكردي بمختلف فروعه وعندما بلغ الخامسة والعشرين من العمر شارك مع صديقه الشاعر الكردي هيمن في أول وزارة إعلام كردية من القرن العشرين في جمهورية كوردستان عام 1946 وكان لهما دوراً بارزاً وفعالاً في نشر وتوسيع الثقافة الكردية.
  • وبعد سقوط جمهورية كوردستان عام 1947 اضطر للهروب إلی بغداد وكركوك والسليمانية ومن ثمّ إلی القامشلي وتربەسپیێ ودیریك ودمشق وبيروت.
  • وشارك عام 1953 كمندوب عن الشعب الكردي في المهرجان العالمي للشبيبة في مدينة بوخارست ثم زار الاتحاد السوفييتي السابق ونال عضوية شرف في اتحاد كتاب أذربيجان السوفييتية.
  • عاش في ظل ثورة أيلول الوطنية1961-1975 وأمضى أجمل أيامه إلى جانب الزعيم الكردي الراحل مصطفى لبرزاني وتابع عن كسب أخبار ثورة 26 أيار الوطنية التقدمية فيما بعد .
  • لاقى مرارة الحياة وضنك العيش واستفاد كثيراً من أسفاره المختلفة في إتقان اللهجات الكردية المتعددة وإجراء المقارنة بينها. 
  • أمضى نصف قرن في دأبه المتواصل وعمله المثابر في خدمة الأدب الكردي متلقياً ومعطاءً .نال خلالها حب الشعب الكردي وثقته الغالية وتقدير الأدباء والشعراء والمثقفين على امتداد كردستان وتوج سنين عمره بوسام لبارزاني الخالد وتوفي عام 1991 عن عمر ناهز 71 عاماً.


undefined


أهمّ أعماله ونتاجاتە

  1. إنجاز الجزء الثاني من قاموس كردي كردي فارسي وهو أضخم قاموس كردي يضم أكثر من 70 ألف كلمة.
  2. ديوانه الشعري الأول ( إلى كردستان ).
  3. تفسير كردي للقرآن الكريم وهي ترجمة أمينة وكاملة
  4. ترجمة وتحقيق الشرفنامة لمؤلفه شرف خان البدليسي.
  5. تحقيق لديوان أمير شعراء الكرد ( ديوان الملا الجزري ).
  6. ترجمة كتاب عشيرة جاوان من العربية إلى الكردية.
  7. ملحمة تساؤلات العقل من الحظ.
  8. كتاب عن تاريخ السليمانية.
  9. إصدار ديوانه الثاني عام 1958 بعد هروبه إلى سوريا جراء ملاحقة الحكومة العراقية له
  10. ترجمة رباعيات الخيام للشاعر الإيراني عمر الخيام إلى الكردية شعراً.
  11. ترجمة كتاب قانون الطب للشيخ أبو علي سينا في عدة أجزاء من العربية على الفارسية.
  12. طبعة هامة لملحمة (مم وزين) مقارنة ومنقحة مع شرح أبياته بمختلف اللهجات الكردية وأعاد نظم الديوان باللهجة السورانية الموكرية ورافقه بالكتاب وكتب مقدمة رائعة للديوان .
  13. ستّة كتب متفرقة بالكردية موضوعة أو مترجمة في شؤون ثقافية وفكرية مختلفة. ومنها كتاب " چێشتی مجێور" الذي ترجمتُ منه هذا المقال وهو مذكراته القیمة مكتوبة باللغة الكوردية طبع في باریس ثمّ في إقلیم كوردستان.