لِـمَ لَـمَ تستطع الثقافة الكُـردية أن تكون أحد روافد الثقافة السورية؟

لِـمَ لَـمَ تستطع الثقافة الكُـردية أن تكون أحد روافد الثقافة السورية؟

عاشت الثقافة الكُردية في سوريا منذ بدايات تأسيس الدولة السورية في حالة عزلة تامّة وتضييق ممنهج بحقّها وإصرار متقصّد لرفضها وإقصائها ومنعها من التبلور كي تكون أحد روافد الثقافة السورية الجامعة تمتزج مع تكويناتها لتشكّل معاً الثقافة السورية الوطنية، فما إن تأسّست سلطة حكومية في دمشق حتّی سارعت الأوساط الشوفينية العربية إلی التوجُّه نحو المنطقة الكردية محاولين تعریب الحجر والشجر فيها، فقاموا بسلسلة من الإجراءات الشوفينية بدءاً بإنهاء حكم الزعامات الكردية المحلية ومروراً بتجريد آلاف العائلات الكردية من الجنسية ومن ثمّ جلب العائلات العربية من الداخل السوري وإقامة مستوطنات لهم في المنطقة الكردية بغية تعریبها باسم «الاشتراكية العربية» وانتهاء بعشرات المراسيم الجائرة التي خدمت الشوفينين وأهدافهم، فكان الثقافة الوطنية المزمع تأسيسها في نظر هؤلاء الشوفينيين منذ الیوم الأوّل لتشكيل الدولة السورية هي أن تكون عربية بحتة. وبذلك تمّ العمل علی إنهاء باقي ثقافات مكوّنات المجتمع السوري كالأرمنية والسريانية والتركمانية وعلی وجه الخصوص الكـردية كونها تمثّل القومية الثانية في البلاد الأكثر عدداً وتعبّر عن منطقة جغرافية مترابطة يشكّل الكُرد فيها أغلبية سكّانية.


حاولت الحكومات المتعاقبة علی سدّة الحكم في سوريا التعتيم علی الوجود الكردي والثقافة الكردية، ومع ذلك استمرّت الثقافة الكردية ونمت وتطوّرت بمعزل عن الثقافة السورية العربية وحاولت التأقلم مع كلّ الاجراءات الشوفينية التي كانت تحاول النيل منها، فالوجود الكوردي الثقافي والسياسي بقي تاريخياً خارج السياق الرسمي للدولة السورية ولم تعترف كلّ حكوماتها بهوية الشعب الكـُردي الذي ألحق جزء من أرضه بدولة سوريا التي تشكّلت حديثاً علی أنقاض السلطنة العثمانية إثر اتفاقية سايكس- بیكو.


كلّ ما جری هو محاولات الشوفينين الحثيثة لدمج الثقافة الكـُردية والثقافات الأخری وصهرهها في بوتقة «الثقافة الوطنية» غير الموجودة أصلاً، والتي لم تتشكّل في سوريا حتّی الیوم، فالهدف منها هو إنّهاء الآخر ومحو شخصيته من الوجود.


لقد كانت الكتابة عن القضايا القومية والمذهبية والدينية ممنوعة طيلة فترة حكم البعث ابتاءًعام 1963 وإلی الیوم باستثناء العربية، وكان النظر إليها منحصراً في أنّها مشروع مضاد لبناء الهوية الوطنية.


والهامش المحدّد لحضور أيّ ثقافة في«الثقافة الوطنية» المزعومة حسب منظور البعث محكوم بالسياسة التي يتبعها نظام الحكم، فهو البوصلة الوحيدة التي تحدّد الاتجاهات التي يجب يكون عليها أي ثقافة. وبناء علی ذلك من الطبيعي أن تنتج السلطة السياسية مثقفين في الأغلب يتبعون لها، لذلك ظلت الثقافة الكردية تعاني التهميش والتغييب، ویتمّ محاربتها علی المستويين الحكومي والشعبي تحت عنوان ضعف الشعور القومي، أو تغذية نزعة الانفصال، واختلاق التّهم من قبیل دعوات مشبوهة للصهونية والإمبريالية دور في إثارتها، للأسف كان هذا الرأي سائداً عند كلّ أقلام الثقافة العربية تقريباً، لم نجد بینهم ذلك المثقف الذي يفنّد تلك الادّعاءات ویدافع عن أحد مكوّنات سورية الأصيلة، الكلّ تماهوا مع الشوفينين في نظرتهم إلی الشعب الكردي ومحاربة ثقافته ووجوده وتاريخه، فغياب المثقف العربي الحقيقي زاد الفجوة والشرخ بین الثقافتين الكردية والعربية السورية، فأخذت الثقافة الكردية موقع الدفاع والحفاظ علی الوجود، أمّا الثقافة العربية فاتّحذت أسلوب الهيمنة والاحتلال وصهر وتذویب الثقافات الأحری وبالأخصّ الكُردية، فكانت النتيجة تكوين سلطة ثقافية قاصرة في الوطن السوري لا تعبّر عن الوجود الحقيقي والتاريخي لمكوّنات الشعب السوري.


undefined
ربما لا تخلو مدينة أو بلدة في سوريا من عائلة أو أكثر تُكنّى بـ “الكُرد أو كردية أو كردي أو كراد"

مؤشّـرات غياب الثقافة الكُردية في مشهد الثقافة«العربية السورية»

عمدت السلطة الحاكمة في دمشق علی الدوام وبخاصّة بعد استيلاء حزب البعث علی السلطة إلی تذویب كلّ روافد الثقافة السورية في بوتقة العروبة، فبدلاً من أن تلجأ السلطة ذات الطابع القومي العربي إلی استغلال ثقافات مكوّنات المجتمع السوري لخلق مجال حیوي للثقافات غیر العربية تزدهر فيه الخصوصية الثقافية الكردية والثقافات الأخری لجأت إلی قمعها وتغییبها بالعنف الفعلي والرمزي، وهذا ما خلق مع مرور الزمن ثقافة إقصائية متنمّرة تقصي ما عداها، لذلك نمت وتطوّرات الثقافة الكردية وباقي الثقافات في فضاءات مؤطّرة وتأقلمت مع الواقع المفروض. لكن هذا الواقع المقموع والعقلية الأحادية الجانب فرضت ثقافة سورية رسمية ظلت تتقوقع في لغة واحدة، وتصوّرات واحدة، وإيديولوجيا واحدة حتّی تماهت في آخر منزلقها التدريجي الفظيع مع قائد واحد.

لذلك نستطيع القول إنّ الغياب الكبیر تقريباً للثقافة الكُردية في مشهد الثقافة «العربية السورية» الحديثة يؤشّر إلی فشلين:

  • الأوّل: عجز الثقافة العربية الرسمية في سوريا منذ تأسيس الدولة السورية في التعامل مع مجتمع متعدّد الأعراق والثقافات، عرب، كـُرد، سريان، أرمن، تركمان، وكذلك التعامل مع حقوق الأقليات، بل حاولت هذه الثقافة علی الدوام محاربة باقي الثقافات المحلية ورفض أيّ اعتراف أو انفتاح عليها، فانعدم التثاقف المحلّي لكن ما يثير الاستغراب أنّ هذه الثقافة كانت أبوابها مفتوحة للتثاقف الخارجي من خلال ترجمة الأشعار والروايات والقصص من اللغة الانكليزية وبقية اللغات الأوربية، وكذلك فتح المراكز الثقافية لها.
  • والثاني: یتعلّق بالثقافة الكـردية وعدم قدرتها علی بلورة دورها وتقديم نفسها كثقافة سورية، للأسباب منها محاربتها من السلطة المركزية في دمشق علی الدوام، فكان هناك نوع من الانفصام بینها وبین الدولة فبقيت في موقع الدفاع وفي نفس الوقت مرتبطة مع أخواتها في الأجزاء الكُردستانية الأخری، كونها من نفس المنبت والجذور، وغير ذلك من العوامل التي خلقت الظروف التي حالت دون التواصل الإيجابي.


لذلك سوريا كدولة منذ تأسيسها تعاني من أزمة بنيوية ثقافية، فالسلطة الثقافية الحالية التی حكمت البلاد بقبضة الحديد والنار لم تعد قادرة علی إدارة الدولة السورية، فلا بدّ من الاعتراف بالتنوّع والاختلاف وإطلاق الحريات، فالمجتمع السوري هو مجتمع متعدّد الهويات ومتنوع الثقافة بحاجة إلی فتح الباب أمام الحريات ليصبح المجتمع قوّة واحدة متكاملة وأكثر تمازجاً وتكاملاً وتعاضداً، وبالتالي بناء مجتمع متماسك متطوّر یرتقي نحو سلّم الإبداع والحضارة.


undefined


دور الثقافة الكردية في الوعي الثقافي السوري

یقول الكاتب أنور بدر رئیس مجلة «أوراق»: «ربما لا تخلو مدينة أو بلدة في سوريا من عائلة أو أكثر تُكنّى بـ “الكُرد أو كردية أو كردي أو كراد”، إضافة لعائلات كثيرة تَكتشفُ بقليل من التدقيق أن أصولها كردية، مع أنّ بعضها كعائلات، بل الكثير منها، لا يعرفون شيئا عن اللغة الكردية»، أمّا الكاتب الكُردي هوشنك أوسي في مقال له «بعنوان الثقافة الكردية بوصفها أحد أنهار الثقافة السورية» فقد أشار إلی تسرّب الموروث الكردي ومفردات البيئة الكردية إلی الثقافة السوريج، فقد كان للفنّ التشكيلي دور كبیر في رفد الثقافة السورية وإغنائها بمفردات البیئة الكردية وجمالها، وطبيعتها الساحرة فالفنّانون الكرد سرّبوا بموهبتهم المبدعة الثقافة الكردية إلى الوعي الثقافي والبصري والنقدي السوري من خلال لوحاتهم وعبر أعمالهم التشكيلية المعبّرة حتّی أصبح البعض منهم نجوماً علی مستوی العالم، ومن أبرز هؤلاء الفنّانين : بشّار العيسى، عمر حمدي، زهير وعمر حسيب، خليل عبدالقادر، عبدالكريم مجدل بيك، نهاد الترك، حسكو حسكو، عدنان عبدالرحمن، آزاد حمي، خديجة شيخ بكر، نارين زلفو، خناف صالح، نارين ديركي، عبدالسلام عبدالله، صالح نمر، جنكيمان عمر، هجار عيسى، دلدار فلمز، كيتو سينو، وعبدالرحيم حسين (رحيمو)، وعشرات التجارب التشكيليّة الأخرى التي لا يمكنني حصر أسمائها هنا. كذلك الحال، ليس بخافٍ أيضاً، كيف تسرّبت المعاناة الكرديّة ومفرداتها وقضاياها ومشاكلها وتعابيرها وتفاصيلها…، إلى الوعي النقدي والثقافي العربي في سوريا خصوصاً، والعالم العربي بشكل عام، من خلال الأدب الكردي المكتوب باللغة العربيّة عبر تجارب هامّة وبارزة ومتنوّعة، على سبيل الذكر لا الحصر: سليم بركات، هيثم حسين، نزار آغري، حامد بدرخان، مها حسن، خلات أحمد، آسيا خليل، آخين ولات، مروان علي، إبراهيم اليوسف، جان دوست، حليم يوسف، فواز حسين، إبراهيم محمود، كوني راش، دحّام عبدالفتاح، منير خلف، حسين حبش، أديب حسن، عبدالباقي يوسف، أفين شكاكي، وجيهة عبدالرحمن، نارين عمر، جولان حاجي، خالد حسين، ريزان عيسى، خليل محمد، وداد نبي، وعشرات الأسماء والتجارب الأخرى. مجمل عناوين إصدارات الأدباء المبدعين والمبدعات الكرد، في السنوات العشر الأخيرة فقط، تشكّل جداراً عالياً وشامخاً ضمن العمارة الأدبيّة والثقافة الثقافيّة السوريّة.ما يميّز المبدعين الكرد السوريين عن أقرانهم وشركائهم في الوطن والثقافة السوريّة، أنهم ساهموا في هذه الثقافة على مستوين لغويين. فمنهم من كتب بلغته الأمّ (الكرديّة) فقط، ومنهم من كتب باللغة العربيّة وحسب، ومنهم من كتب بهاتين اللغتين. وعليه، ما يميّز النهر الثقافي والأدبي الكردي الذي يصبّ في الثقافة السوريّة، أنه متنوّع وهادر. ویتابع الكاتب هوشنك قائلاً: «علاوة علی ذلك، فقد حقّق المبدعون والمبدعات الكرد السوريون بعض الإنجازات على الصعيد العربي، تسجّل لهم على الصعيد الشخصي، وتسجّل كإنجاز للثقافة والأدب في سوريا أيضاً. إذ حصل منهم على جوائز إبداعيّة هامّة، ومنهم من كان قاب قوسين أو أدنى منها. ما يعني أن الأدب الكردي السوري كان من القوّة والمنافسة بمكان أن أثبت حضوراً هامّاً ولافتاً في المحافل الثقافيّة العربيّة الأخرى».


بالتأكيد لا يمكننا الإحاطة بالآداب والفنون والثقافة الكرديّة ودورها في الثقافة السورية من خلال مقال واحد، لكن يمكننا القول بالرغم من العراقیل والعوائق فإنّّ الثقافة الكُردية خطت خطوات جیّدة في هذا المجال واستطاعت أن تتسرّب إلی عمق الثقافة السورية العامّة عن طريق الأقلام المبدعة التي تخطّت كلّ الحواجز لتعبّر عن أصالتها وقدرتها علی التألّق والإبداع، للأسف فكلّ السياسات التي اعتمدها الغلاة الشوفينيون في تفتیت المجتمع الكردي وتذويب ثقافته وصهرها في بوتقة العروبة، كانت النتيجة اتجاه الثقافة العربية نحو المزيد من التعصّب والمضاد للعرق الآخر، وفي الجهة المقابلة نشأت ثقافة وسياسة كُردية مقاومة لأيّ دمج باعتباره محض لعبة تستهدف الإلغاء وتتستّر بالوطن الواحد، لذلك حريّ الیوم بالكتّاب والمثقفين العرب السوريين أن يملكوا الجرأة الكافية للتقرّب من الثقافة الكردية السورية ويطّلعوا علی النتاج الثقافي المكتوب من خلال الترجمة أو تعلّم اللغة الكردية كونها لغة ثاني أكبر مكوّنات البلاد، ويمدّوا جسر التواصل، لتتبوّأ الثقافة الكردية مكانها الطبيعي كأحد أهمّ روافد الثقافة السورية الحقيقية المعبّرة عن هويتها الوطنية الجامعة.