هكذا ودع اهل كرداغ (عفرين) شاعرهم الراحل حامد بدرخان

هكذا ودع اهل كرداغ (عفرين) شاعرهم الراحل حامد بدرخان

اجواء عيد الاضحى اصبحت حزينة مع خبر وفاة الشاعر الكبير حامد بدرخان . خيم الوجوم على الوجوه وملئ الحزن خفقات القلوب , قلوب الذين عرفوا حامد شخصيا عن قرب او تعرفوا عليه من القصائد المنشورة التي قرؤوها وتداولوها على مدى نصف قرن , لم لا فقد عبر بشعره عن اوجاع الفقراء والشعوب المقهورة في مختلف اصقاع العالم , وانحاز فيها إلى قضاياهم الطبقية والاجتماعية والانسانية , أنعش فيهم الامال وغنى معهم من أجل مستقبل السلام والحرية والمساواة.


لذلك تم تشييع الراحل بشكل لائق جميل , اشاد به كل من حضر, منهم الكاتب حسن م يوسف ومحمد الجندي وابراهيم اليوسف وعبد المجيد شيخو ومن معهم من الكتاب والمثقفين فقال حسن م يوسف : أهنئكم على هذا التنظيم الشعبي الجميل الذي لا تنجح الجهات الرسمية في تنظيمه بهذا الشكل الرائع.

فدرس في قرقخان باللغتين التركية والفرنسية وانتقل إلى انطاكيا ثم اضنه

ينحدر الشاعر الكبير حامد بدرخان من السكان الأصليين لبلدة شيخ الحديد (شيه) الكردية عفرين- حيث ولد فيها عام 1924 وكان والده يدعى مراد بن حسه خضر وأمه اليف بنت محمد عله (مختار القرية)

كان له اخان توفيا قبله هما عثمان وعلي (أولادهما حاليا في قرقخان) أما اقرباؤه الاخرون فهم في شيخ الحديد (سليمان رمو وغيره)


عندما اغتيل جده محمد عله (مع صديقه شيخ حسن) بتدبير من آغوات القرية أغلق مراد دكانه الصغير وقرر الهجرة , اذ كيف لفلاح فقير وأعرج ان يواجه جور الاقطاع ونفوذه (من هنا يعرف حتى الآن في منطقته باسم (حميديه كوتو Hemitê Kȗto ) أي حميد ابن الاعرج .


اتجه مراد الاعرج غربا ليستقر في قرقخان المطلة على بحيرة العمق من الشمال ويعود منها بين الحين والآخر إلى شيه ليخدم فيها ارضه الجبلية ويزرعها .


undefined

الصورة لي (محمد دلي) من منصة التشييع مع الفنان محمود عزيز الذي غنى مواله الحزين Rewiyo xatir bixweze حسب وصية حامد


رغم أن حامداَ لم يكن يكترث بالأرقام والتواريخ فلم يذكرها عندما كان يُسأل إلا انه يمكن تقدير دخوله المدرسة في بداية الثلاثينات من هذا القرن, فدرس في قرقخان باللغتين التركية والفرنسية وانتقل إلى انطاكيا ثم اضنة وبسبب تفوقه أثار انتباه استاذه ممدوح سليم (أحد مؤسسي جمعية خويبون الكردية ) تلقى منه الاهتمام والرعاية وتعرف عنده على الكثير من الشخصيات الثقافية والنضالية الكردية والتركية (التي كانت تتردد إلى بيت الأستاذ ممدوح سليم أمثال رشيد كرد وقدري جان وفيما بعد في سوريا عثمان صبري وجلادت بدرخان وشوكت نعسان ورشيد حمو وغيرهم) وفي هذا الجو المناهض للجهل والاضطهاد تبلورت الرؤية امامه شيئا فشيئا مع اكتمال دراسته.


ثم تخرج من كلية الاداب بجامعة إسطنبول ونال شهادة في الادب المقارن كأي شاب بمقتبل العمر يلامس الحب شغاف قلبه بدأ منذ الرابعة عشر من عمره بالامساك بخيوط الشعر فكتب قصيدته الأولى حينها , وهكذا بدأت مسيرته الطويلة , ليمتطي صهوة القلم ويمخر عباب الخيال والاحساس , يدخل المسابقات الثقافية المدرسية وينال الجوائز , وتنشر له الصحف والمجلات مثل صباح الخير (كونايدن) التركية بأسماء مستعارة مثل حميد اراغون وبسبب آرائه تبدأ معاناته مع السلطات التركية ويتعرض عدة مرات للاعتقال والنفي , وفي السجن يتعرف على الشاعر التركي ناظم حكمت ويقرأ له أشعاره ويتعرف على أفكار الشيوعية والحرية والمساواة والتضامن بين الشعوب.


في إحدى ليالي 1951 اجتاز الحدود التركية السورية وعاد سراَ إلى مسقط رأسه شيه التي احتضنته في بيوتها مختبئا ليلا ونهارا ونسج خيوط علاقاته مع المتعلمين والمتنورين فيها أمثال علي داغلي وخوجه حسين وعثمان حدو وآخرين في جبل الاكراد , كذلك تعرف على أستاذ مدرسة القرية السيد رشيد عبد المجيد أبو فؤاد وواظب على القراءة والكتابة والتأمل, تعلم اللغة العربية بمساعدتهم وغيرهم, تزوج من أرملة تدعى أيمش كانت لها طفلة من زوجها الأول تدعى حسنة (توفيت قبل اشهر من وفاة الشاعر) وليس للشاعر أولاد.

ان حياتي كانت فوضى

عندما توفي حامد في مشفى حلب الجامعي بعد صراع طويل مع مرض القلب ,في اليوم التالي التقينا كمجموعة من الاصدقاء في بيت رشيد عبد المجيد (ابو فؤاد) في حلب وهناك اتفقنا على تنظيم التشييع ومتابعة امور الراحل.

 

وقد قمت بنشر مقالة بعنوان: رحيل الشاعر حامد بدرخان باسم مستعار (يوسف مصطفى) في مجلة (الحوار) ـ العدد المزدوج: 11-12 الصادر في ربيع - صيف 1996 وفيما يلي نص المقالة :


رافقه شخصان من اقاربه وجيرانه (سليمان رمو ومحمد هوريك) وساروا به عام 1951 مشيا عبرعين دارة إلى حلب وهناك التقى بشاهين بك من كوباني الذي توسط لدى السلطات السورية (كونه عضو في البرلمان) ليحصل حامدا على الهوية السورية , حيث اتخذ الشاعرلنفسه كنية بدرخان بعد اذن الأمير جلادت بدرخان وباقتراح من استاذه ممدوح سليم تقديرا واستمرارا لنضال آل بدرخان .


انتقل إلى حماة لدى احد معارفه الاكراد ثم إلى السلمية وحمص واللاذقية وغيرها من المدن والمناطق, ليمارس مختلف الأعمال الشاقة من صب الاسمنت وكسر الحجارة إلى تزفيت الطرق واحيانا جاويشا للعمال ثم عاملا في المطبعة وفتعرف على الكثير من الناس وبنى صداقات متينة معهم خاصة آل الجندي في السلمية وتطورت علاقاته معهم واستمرت حتى الوفاة (علي وأحمد الجندي).


اثناء الليل والراحة لم يفارق الكتاب والقلم , يخط مقالاته ويدون اشعاره ويرسلها إلى العديد من الصحف والمجلات ( الوطن – برق الشمال – نضال الشعب – وغيرها) وباسماء مستعارة ( حسين - أحمد )


لم يكترث الفقيد بتنظيم الأمور وترتيبها, فلم ينتسب إلى أي حزب سياسي في حياته رغم اعتناقه للمبادئ الأممية والثورية , وكذلك الامر كان حتى مع قصائده وكتاباته وسيرة حياته, عندما تأتيه الحالة الشعرية كان يكتب ابياته على أوراق الجرائد ونتف الورق وحتى ورق تغليف الحلاوة, يتركها وراءه لذلك فإن الكثير من قصائده ضاعت أو ليست لديه مخطوطاتها , قال أثناء مرضه: ( ان حياتي كانت فوضى او كانت حياة بوهيمية , اكتب قصائدي كيفما كان ودون مراجعة واتركها خلفي , لقد اتصل معي مؤخرا الدكتور مصطفى موسى من باسلة عفرين وهو الان في الخارج وقال أن لديه مجموعة من قصائدي تشكل ديوانا سوف ينشرها فيما بعد).


تشجع ونشط في كتابة قصائده باللغة الكردية تداركا للنقص وعودة عن الخطأ في إهمال لغته الأم

إن أكثر من 90% من نتاجات حامد باللغة العربية, أما الباقي باللغة التركية والفرنسية إذ كان يشارك في برنامج الإذاعة السورية بالعديد من المقالات والداسات (القسم العربي والتركي والفرنسي) لمدة حوالي عشرين سنة , كما ولديه قصائد قديمة متفرقة باللغة الكردية .


إلا انه في السنوات الأخيرة واثر التطورات العالمية والإقليمية والكردية الأخيرة تشجع ونشط في كتابة قصائده باللغة الكردية تداركا للنقص وعودة عن الخطأ في إهمال لغته الأم لغة الذين ولد من نسلهم واحتمى بينهم ونال رعايتهم ( ودفن في حضنهم في النهاية) لذلك تم تكريمه في المهرجان الثاني للشعر الكردي في سوريا 1994 وألقى فيه قصيدته (شيه ).


لقد خاض فقيدنا الشاعر صراعا عنيدا مع المرض فأصيب بالجلطة عام 1983 ودخل مشفى فريشو في حلب , بعدها تشجع لاصدار دواوينه وأصدرت له دار الحوار باللاذقية ديوانه الأول ( على دروب آسيا ) . بين الحين والآخر كان المرض يعاوده فيلجأ إلى الأطباء والأصدقاء وفي كل مرة يعد بإصدار دوواينه وله ديوان قابع في ادراج الرقابة الرسمية منذ عدة سنوات لم ينل الموافقة حتى الآن ثم اصدر ديوانا آخرا بعنوان (ليلة هجران) على عنوان إحدى قصائد الشاعر الكردي جكرخون , رغم أن لديه ديوانان جاهزان (أغاني جبلية – موعد الكروم ) إلا أن العديد من القصائد المخطوطة أو المنشورة ونتاجاته الأخرى تحتاج إلى الجمع والتحقيق والترتيب والنشر لتنال قسطها من الدراسة والنقد والتقييم من قبل أصحاب الاختصاص .


زادت عليه وطأة المرض وتدهورت حالته الصحية في أواخر 1995 وكعادته لجأ إلى حلب ليلازم الفراش متنقلا بين مشفى انطونيان ومشفى الجامعة وعيادات أطبائه وبيت صديقه (أبو فؤاد) أو بيوت اقاربه , وظل متمسكا بالحياة بشدة فائقة , يصارع المرض بقلبه ومعدته وكبده وكليتيه , كارها الليل والعزلة , خائفا من ذئب الموت , وللانصاف يجب القول : التقت حوله مجموعة من المثقفين والأصدقاء والوطنيين الاكراد إضافة لأقربائه واطبائه وقدموا له الرعاية الصحية والمعنوية أثناء مرضه الذي طال شهورا وتراوحت حالته بين التحسن والتراجع , بين الموت والحياة, اذ قدموا له العناية تقديرا ووفاءَ له وللقيم الثقافية والعلم ورجالاتها . علما أننا نعيش في وقت بات فيه كل شيء سلعة للمتاجرة والاغتناء وتدنت قيم الثقافة والعلم , إلى أن توقف القلب الكبير حبا وإرادة وإنسانية في مساء 29 -4-1996 أيام عيد الأضحى المبارك واحتشدت الألوف في موكبه الذي انطلق في العاشرة من صباح يوم الخميس 2-5-1996بدءا من مشفى جامعة حلب نحو جبل الأكراد – منطقة عفرين , كان الوقت ربيعا تشوبه سحابة الحزن والاسى , استقبله الناس بالازهار والورود على جانبي الطريق في عفرين وجنديريس وبافلور وانقله وسنارة , باستقبال مشهود.


وانتظم عند مدخل البلدة سكان شيخ الحديد والقرى المجاورة لها قرميلق وارندة وشيخ جقلي وغيرها , على امتداد أكثر من 3 كم , امتلأ جانبا الطريق بهم , وقفوا باجلال حزين رجالا ونساء واطفالا, تتقدمهم الفرق الفنية بالزي الكردي الرسمي والتي قدمت تحية الاستقبال حاملة لصوره وعلى طول الطريق كانوا ينثرون الورود وازهار حدائقهم وحقولهم واغصان الزيتون لتغمر الفقيد وضيوفه مرفقة بالدموع والحسرات , تعمقت هذه الصورة في ذاكرة الحضور , إنها مثال عن تقدير شعبنا لقيم الثقافة والوطنية ومؤشر عن تطوره.


undefined

المستقبلون على جانبي طريق مدخل شيخ الحديد يستقبلون الموكب بالورود والازهار.


عبر نافذة زجاجية ألقيت النظرة الأخيرة على الفقيد وحسب وصيته أعد قبره بارضه في حقل القمح ودفن ملفوفا بالعلم الكردي في جوار الوادي ( كليه حيرا Geliyê Hêra ) وقرب كوخه العشبي هولك , متكئا على سفح جبل حسه خضر (باسم جده) الذي يمد جذور صخوره عميقا داخل شيخ الحديد ـ شيه ,التي كان يسميها الشاعر (صومعة الفكر) .


كلمات عديدة القيت في حفل التابين (كلمة محمد الجندي باسم أصدقاء الشاعر – كلمة أهالي منطقة عفرين – كلمة أهالي شيخ الحديد – كلمة أهالي وأصدقاء الفقيد – إضافة إلى كلمات مجلات ( المواسم – الحوار – برس ) والقيت بعض القصائد ووصل العديد من البرقيات والرسائل , تخللت الكلمات مقاطع شعرية عربية وكردية للشاعر حامد بدرخان.


حضرت حفل التابين بعض الشخصيات : الكاتب الصحفي حسن م يوسف وغيره من الأصدقاء العرب مثل السيدة نادية خضور والسيدة سلوى شحادة وكذلك حضر عضو مجلس الشعب الأستاذ عصمت عمر والأستاذ يوسف احمد.


وصلت رسائل من الملتقى الثقافي في الجزيرة ومعهد الدراسات الكردية في موسكو ومجلة زا نين,وكثير من الأفراد والأسر, ووضعت باقات وأطواق الورد باسم وصال فرحة بكداش , الدكتور عبد الرزاق عيد وبعض الأحزاب والمنظمات الكردية والشيوعية وأصدقاء الفقيد وغيرهم.


بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيل الشاعر حامد أقيم احتفال آخر في دار أحد جيرانه في شيخ الحديد في 7-6-1996 حضره عشرات المدعووين من دمشق والجزيرة وكوباني (عين العرب) والرقة وحلب , إضافة إلى جبل الأكراد , ألقيت كلمات :

  1. فرع حلب لاتحاد الكتاب العرب (الأستاذعبدو رشو محمد)
  2. أصدقاء الشاعر( الأستاذ محمد الجندي والشاعر محمود علي السعيد)
  3. كلمات مجلات بالعربية : المواسم – الطليعة – الحوار – أجراس 
  4. كلمات مجلات بالكردية : كلاويج – برس – بهار
  5. كوما خاني
  6. كلمات وقصائد المحامي خليل ساسوني , ام جوان , القاص عبد الحليم يوسف , سوزان وفؤاد – أهل الفقيد وبلدة شيه


والجدير بالذكر بان العديد من الشخصيات الوطنية والثقافية أرسلت برقيات التعزية بوفاة الشاعر: 

  1. برقية الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة السورية
  2. برقية الكاتب الكبير حنا مينه
  3. برقية رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور علي عقلة عرسان
  4. برقية الكاتب الصحفي الكبير حسن م يوسف
  5. برقيات مختلفة من السادة صلاح بدر الدين – عبد الحميد درويش د,شاكرو وغيرهم


إن خير وفاء لشاعرنا وللقيم والمبادئ النبيلة التي حملها هو استكمال ما حاول إنجازه والاستفادة من تجربته , إن شعبنا حي وطيب لا يبخل في تقديم العديد من الطاقات والإمكانات التي يجب ان تثمر وفاء له كي يساهم بدوره الحضاري مع بقية شعوب العالم .


هوامش : 

  1. ثمة اختلاف في تاريخ الولادة بين الهوية التركية والسورية للشاعر 
  2. تيمنا بصديقه الشاعر الفرنسي آراغون
  3. يعتبر حامد احد أربعة أصدقاء ليس لهم اولاد , وهذا يدعو للاستفهام , وهم ناظم حكمت (هرب إلى روسيا ) ـ عابدين دينو ـ ممدوح سليم وحامد هربوا إلى سوريا
  4. وهو من قرية هوبكا ـ منطقة عفرين ـ كان يدرس مع حامد في قرقخان
  5. راجع مقابلة مجلة الحزار مع حامد ـ العدد الثاني 
  6. حدث استقبال مماثل لموكب الوطني الكردي محمد بكر (من قرية جقلي منذ عدة سنوات
  7. القيت كلمة (الحوار وبرس ) من قبل دلاور زنكي 
  8. القيت قصية الشاعر جكرخون ( ليلة الهجران ) من قبل ام فؤاد


ملاحظة:

يستطيع من يرغب معرفة المزيد من التفاصيل القيام بمشاهدة الفلم الذي صوره الصديق فهمي الشيخ وعلق عليه الكاتب حيدر عمر من متابعته على اليوتيوب على الروابط التالية:


محمد دلي