لا هويّة وطنيَّة حقيقيّة في سوريّة من دون حلٍّ عادلٍ للقضية الكُرديَّة

لا هويّة وطنيَّة حقيقيّة في سوريّة من دون حلٍّ عادلٍ للقضية الكُرديَّة

يشكّل مفهـوم تحديد الهويَّـة الوطنيّة السّوريَّة أحد أهـمِّ التّحدّيات الّتي تواجهُ النّخبَ والفعالياتِ السّياسيّة والثّقافيّة السّورية حاضراً ومستقبلاً بمختلف توجّهاتهم ومشاربهم الفكريّة معارضةً ونظاماً, نظراً لتعدُّد المصادر والمرجعيّات المغذّيّة لتلك التّوجهات واختلافها وتنوّعها, علاوةً على الشرخ والخلل البنيوي التّاريخي الذي تعانيه الهويّة الوطنيّة السّوريّة على المستويات السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافية والّتي لم تتحوّل يوماً ما إلى مشروع متكامل يضمّ بين طياته كافّة الشرائح والتّيارات الوطنيّة, ويلغي إرادة القوّة الأحاديّة لصالح قوّة المجموع التّكويني السّوري, فمنذ بدايات تشكيل الدولة السّوريَّة بدأت الأفكار والرؤى الأحادية الجانب تتغلغل شيئاً فشيئاً داخل الهرم السلطوي السياسي والثّقافي في الدولة الحديثة العهد, وأخذت تلك الرؤى تجد البيئة المناسبة لانتعاشها إلى أن انتظمت في تنظيم شمولي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1963م, وباستيلائه على الحكم بدأت مرحلة جديدة في سورية, فسرعان ما انصهرت الهويّة الوطنيّة في بوتقة إسلامية عروبيّة, فبدأ عهد جديد تمّ خلاله إقصاء كل التيارت الفكريّة الخارجة عن تلك الهويّة الجديدة من خلال سياسة القمع والإقصاء ممّا أدّى لقولبة المجتمع السوري وفق رؤى وتطلعات حزب السلطة الّذي استمدّ فكره وسلوكه العملي من أقوال منظرية أمثال زكي الأرسوزي, وميشيل عفلق..إلخ, الّذين أكّدوا في نظرياتهم بأنَّ البعث يعني بعث الإسلام والعروبة مختصرين كلّ الهوية السّورية في هذين العنصرين, وكلّ من يخرج من هذا الإطار سيكون في دائرة الاتّهام ويجب محاربته, فبقيت هذه النّظرة القاصرة تحكم سورية طوال أكثر من نصف قرن, متبعةً في سبيل ذلك سياسة إقصاء الآخر المختلف وقمعه بشتّى الأساليب والوسائل, وتمّ طمس وإسكات كلِّ الأصوات المعارضة, لذلك ظلّتِ الكثير من القضايا عالقة ومهملة ولم تجد لها حلولاً, وبقيت رهينة في الدّوائر الأمنيّة وتحت رحمة السّوط, فتطوّرت تلك القضايا خارج السّياق السّلطوي وبشكلٍ منعزل بعيدة عن الأضواء والإعلام, فتراكمت تلك القضايا إلى أن حصل الانفجار السوري في آذار عام 2011 والّذي لازال أوارُ نيرانه مستعراً في أكثر من جبهة في سوريّة, إذاً بمجرّد استيلاء حزب البعث على الحكم كان بداية للاستيلاء والسطو على الهوية الوطنيّة االسّوريّة في المهد وتشويهها وإنهائها. 


undefined


في ظلِّ هذه المعمعة ظلت القضية الكردية كإحدى أهمّ قضايا البلاد رهينة الدوائر الأمنيّة, لا بل تمت محاربتها والتعتيم عليها بشتّى الوسائل من خلال حملات التعريب الممنهجة, والاستيطان, والقرارات الجائرة, والمشاريع الشّوفينيّة وغيرها, لذلك قد لا نكون دقيقين ومحقّين عندما نقول "الهويّة الوطنيّة السّوريّة", فهي لم تلد بعدُ, ولم تتبلور يوما ما هويّة جامعة لكلّ السّوريين تراعي خصوصياتهم القوميّة والطّائفيّة والدينيّة والأمميّة والمذهبيّة والعشائريّة, فقد تغنّى بها النّظام الحاكم شكلاً لا ممارسة, فكثيراً ما تمّ التّطرّق إلى مصطلحات كالفيسيفاء السوري, والتّنوّع الوطني, والغنى الحضاري السّوري لكنّها لم تترجم بشكل عمليٍّ على أرض الواقع وبقيت شعاراً فضفاضاً يتباهى به إعلام السلطة في مناسباتها وفي وبعض المواقف العرضيّة. ومن الجدير بالقول إنّ القضية الكرديّة تختلف في كينونتها عن الكثير من القضايا الأخرى العالقة كقضية الحريات العامّة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني..إلخ فهي قضية شعب يعيش على أرضه التّاريخيّة وبحاجة إلى الاعتراف الدستوري بحقّه وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات, فهي قضية تمسّ البنية الثّابتة للمجتمع السّوري وجزء منها, لكن للأسف النظام السّوري المتمثل بحزب البعث والتّيارات السّوريّة الأخرى الموالية له والمعارضة لم تتجرّأ يوما من التّقرّب من هذه القضيّة الوطنيّة بامتياز, فكانت تنظر إليها بمنظور أمني وانفصالي, بالرّغم من أنّ الحركة الكردية ومنذ تأسيسها تبنّى الخيار الوطني وسعت في محتلف المراحل إلى التأكيد بأنَّ القضية الكرديّة هي قضية وطنيّة ديمقراطيّة بامتياز, ودعت إلى تمتين العلاقات مع القوى الوطنيّة الديمقراطيّة في البلاد باعتبار الحركة الكرديّة جزء لا يتجزّأ من الحركة الوطنيّة العامّة في البلاد, وأكدت على التّلازم النضالي بين المسارين القومي والوطني.

 

لذا, فالسؤالُ الّذي يفرض نفسه, ولا سيما بعد هذا الخراب والدّمار الذي حلّ بسورية طيلة ثماني سنوات, هل يمكن للنخب الثقافية والسيّاسيّة السّورية أن تعيد النظر في آراءها المسبقة وتفكيرها الماضوي؟ هل يمكن أن تتجرّأ في الاعتراف بأنّها تتحمّل الجزء الأكبر في ما آل إليه وضع البلاد؟ هل يمكن لها تقرأ القضية الكرديّة والقضايا الأخرى في البلاد قراءة جديدة بناء على معطيات الواقع المحسوس من أجل بناء هوية وطنية جامعة وتكون سورية حينذاك ممثلة حقيقية لكلِّ السوريين؟ للإجابة, أقول إنَّ الأمر يحتاج إلى إرادة حرّة مفتوحة, وعقلٍ بنَّاءٍ مفكّر يضع النّقاط على الحروف.

undefined


لذلك فحريٌّ اليوم بالنّخبِ السّورية الثقافيّة والسياسية أن تشخّص الواقع وتعي بأنّ سورية تعاني من خللٍ بنبويٍّ عميقٍ استبان فيما حدث من تفكّكٍ وانقسام داخلي طيلة السّنوات الثمانية الماضية, وإنّ الحلّ يكمن في الاستقصاء الفكري الشّجاع لصياغة هوية جامعة حقيقية لكلّ السّورين بمختلف انتماءاتهم العرقية والمذهبية والفكريّة, والنّظر إلى القضايا بروج وطنيّة بعيدة عن عقلية الانغلاق والتّقوقع والمعاداة, واعتبار قضية أيّ عنصر من العناصر المكوّنة للهويّة السّورية هي قضية كلّ السّوريين, وذلك من خلال:

  • الاعتراف الدّستوري بكلّ المكوّنات التّي تشكّل المجتمع السّوري وتحديدها, وحقّها في التّعبير عن نفسها بما يخدم الهويّة السّوريّة الجامعة. 
  • التّوافق فيما بينها على اختيار شكل الحكم المناسب الذي يراعي خصوصيات الجميع في إطار تلك الهوية، وأن تضع كل مكون إمكانياته لصالح المصلحة العامة لكل المكونات.
  • إلغاء طغيان الفكر العروبي من بوتقة الهوية السورية، والتأكيد على أن سورية كدولة لا يمكن أن تختزل في أية هوية.


وصفوة القول؛ لا هوية وطنية حقيقية في سورية من دون حلّ عادل للقضية الكوردية، فالمعطيات الجديدة تتطلب من الجميع نظاما ومعارضة طي صفحة الماضي، والجلوس على طاولة واحدة، وتبادل الآراء والأفكار للوصول إلى توافق مجتمعي ورؤى جديدة لتكوين الهوية الوطنية الحقيقية، وهذا يقتضي قراءة الواقع السوري قراءة جديدة واستقراءه الحي لا ستخلاص النتائج التي ستؤسس لهوية سورية جامعة، فالسؤال هو: هل تمتلك النخب السورية الجرأة الكافية لتحقيق ذلك؟ الإجابة برسم المعنيين.