مـدينةُ الدّرباسـيّة (Dirbêsiyê)

مـدينةُ الدّرباسـيّة (Dirbêsiyê)

تُعدُّ المنطقة التي تسمّی الیوم بالدّرباسیة تاریخیاً امتداداً لبرّیة ماردین علی بُعدِ 30 كم منها جنوباً، أمّا الیوم فأنّها إحدی أهمّ مدن روج آفاي كوردستان تتبع لمحافظة الحسكة، وهي تشكّل القسم السوري من مدینة كانت بنفس الاسم في تركیا، انقسمت إلی شطرین إثر وضع سكّة قطار الشرق السریع، لذا حاولت في هذا البحث أن أسلّط الضوء علی جوانب من تاریخ هذه المدینة لتكون مرجعاً توثیقیاً للأجیال القادمة ولمن یزورها أو لمن یرغب في التعرُّف علیها. 


الموقع والأهميَّة:

تقعُ مدينةُ الدّرباسيّة شمال مدينة الحسكة على بُعدِ 80 كم محاذية للحدود التركيّة, يحدّها من الشّرق مدينة عامودا على بُعد 24 كم, ومن الغرب مدينة رأس العين على بُعد 50كم تقريباً, تتبعُ إدارياً لمنطقة سري كانيه (رأس العين) التابعة لمحافظة الحسكة, وهي القسم السّوري من مدينة بنفس الاسم في تركيا, انقسمت إلى شطرين إثر وضع سكّة قطار الشّرق السّريع, وكان مركزها الحالي فيها ثكنة عسكريّة فرنسيّة, وفندق حسب عادة الفرنسيين ومصرف وجمارك, فبعد الاحتلال الفرنسي لسورية عام 1920, تمّ ترسيم الحدود الشّماليّة لسورية, وبناءً على اتّفاقية أنقرة الأولى عام 1921 بين فرنسا كدولة منتدبة على سورية وتركيا والّتي بموجبها تمّ فصل الأرياف الكورديّة الّتي ألحقت بدولة الانتداب عن حواضرها الكوردستانيّة في الشّمال, وبموجب ذلك قسّمت البلدة الكورديّة الصّغيرة (الدرباسيّة) في تركيا إلى شطرين, حيث بقي جزءٌ من الأراضي الزّراعيّة وبعض بيوت السّكن داخل الحدود السّوريّة والّتي كانت ملكيتها تعود للمالك كرمو نايف درباس, ويؤكّد ذلك بعض المعمّرين بأنّهم قاموا بجمع مبلغ من المال فيما بعد من أهاي البلدة المسلمين وإرساله للمالك المذكور مقابل استخدام قطعة من أرضه مقبرة للبلدة, أمّا من حيث الأهميّة فتُعتبر الدّرباسيّة إحدى أهمّ المدن في روج آفايه كوردستان, وتُعدُّ امتداداً طبيعياً لقضاء ماردين في كوردستان تركيا, تتربّع على سهولٍ واسعة, عُرفت بخصوبة أراضيها, ووفرة مياها العذبة, كانت ولا زالت موصوفة بهوائها العليل ومناخها الجيّد اللّطيف, تقعُ على الخطّ المسمّى بـ (خطّ العشرة) أيّ خطّ المطر, وهي منطقة واسعة تجثم على خزّان مائيّ كبير من المياه الجوفيّة, لذلك تنتشر في قراها الكثيرة المشاريع الزّراعيّة المرويّة بالآبار الارتوازيّة, فازدهرت المحاصيل الاستراتيجية وخاصّة القطن في السّنوات الأخيرة, حيث كانت الدّرباسيّة الأولى في زراعته على مستوى البلاد.


undefined


التّسميّة:   

اسم الدّرباسيّة مشتقٌ على الأغلب من اسم البلدة الكوردية في تركيا الواقعة على الطّرف الآخرمن الحدود, كانت ولاتزال تحمل نفس الاسم (Dirbêsiya ser xetê), رغم تعرّضها للتتريك حيث تسمّى اليوم بـ (شانيورت), وهي مدينة قديمة أُنشىء فيها في العهد العثماني 1908 محطّة لقطار الشّرق السّريع والّتي لا تزال قيد الاستخدام حتّى تاريخه, أمّا معنى الاسم الدّرباسيّة فيعود على الأغلب إلى اسم ملّاك أراضيها وبانيها كرمو نايف درباس الّذي ينسب إلى عشيرة خلجان الكورديّة الّتي تقيم في القسم التّركي من المدينة. بينما يرى البعض بأنَّ اسم المدينة مركّب من الكلمتين: (درب- آسيا) أيّ أنّها كانت محطّة في طريق القوافل التّجاريّة القادمة من الجنوب والغرب باتّجاه الشّمال والشرق أيّ باتّجاه آسيا فلا توجد أيّة وثائق تاريخيّة تثبت ذلك, وهذا رأي ضعيف لأنّه لم تكن وقتها الحدود مرسوماً بالشّكل الّذي نراه اليوم فقد كانت أراضي الدرباسيّة برية لمدينة ماردين, وقد تكون هناك آراء أخرى في التّسميّة لكنّها لا تتعدّى حدود الاجتهادات. فالرأيّ الأوّل هو الواقع والحقيقة.

وجديرٌ بالذكر أنّ أهالي المنطقة لازالوا يتداولون حتّى اليوم تسميّة (دربێسيا سەر خەتێ) للقسم التركي من المدينة, و(دربێسيا بن خەتێ) للقسم السّوري منها, والخطّ المقصود به (خطّ القطار).


undefined


بناءُ الدّرباسيّة ونقل مركز النّاحية من القرمانيّة إليها:

يؤّكّد السّيدُ إبراهيم يامين الّذي أصدرَ كتاباً بعنوان الدّرباسيّة ماضياً وحاضراً , إنّه تمّ تشكيل لجنة من 12 عضواً في عام 1931 من كبار التّجار وأصحاب الحوانيت وذهبوا إلى القامشلي لمراجعة السّلطات الوطنيّة والفرنسيّة فأوعزوا لهم أن يعمّروا الدّرباسيّة وينتقلوا إليها, فتمّ بناء الدّرباسيّة إلى جانب بعض البيوت القديمة العائدة للفلّاحين والقريبة من الثّكنة العسكريّة الفرنسيّة*, حيث قام الكابتن قاسم الضابط في جيش الاحتلال بشراء الأرض من كرمو نايف درباس, وهو كورديٌّ, يسكنُ أولاده حالياً في الطّرف الآخر من الدّرباسيّة الواقع في تركيا والّتي تسمّى اليوم بـ (شانيورت), فوضعت لجنة من مهندسي المدن السوريين والفرنسيين مخطّطا للمدينة الجديد وذلك ببناء ما يقارب خمسة وسبعين حانوتاً من الطّين, وبعد إتمام البناء تمّ الاتفاق على يوم الانتقال إلى المدينة المشيّدة في 18- تشرين الأوّل من العام نفسه, فوزّعت على أصحابها بالقرعة, كلّ حانوت كان بسعر إحدى عشرة ونصف ليرة ذهب, أمّا بيوت السّكن فكانت مساحة كلّ بيت 400 متراً مربعاً, وسعره بقيمة الطّابع الّذي يلصق على الطّابو ليرة واحدة, حيث انتقلت 96 عائلة دفعة واحدة من القرمانيّة الّتي كانت مركزاً للنّاحية, منها 86 عائلة من المسيحيين الّذين هاجروا من مناطق ماردين وديار بكر جرّاء المذابح الّتي كانت ترتكب بحقّهم من قبل الطّورانيين الأتراك, وبعد الانتقال سكن قسم منهم في محلّاتهم التّجاريّة (الحوانيت) المبنيّة من اللّبن, أمّا من ناحية الغرب فتمّ تخطيطها لزراعة أشجار الكرمة كلّ هكتار على حِدة, وكان سعره بقيمة الطّابع الّذي يلصق على الطّابو الممنوح للمشتري من أجل هكتار واحد 25 ليرة, وبنيت فيها مدرسة عام 1932 بإدارة القس يوسف رزقو, وعُيِّنت الأنسة عطيَّة جرجس قاووغ المعلِّمة الوحيدة والمسؤولة عن المدرسة, وفي عام 1934, ستمّ بناء كنيسة (مارجرجس) للكاثوليك, حيث بناها الأب يوسف رزقو وبمساعدة بعض التّجار, وفي نفس العام تمَّ تشييد (الجامع الكبير) أيضاً, أمّا مئذنتها فبُنيت في عام 1964, وكان إمام الجامع الكبير آنذاك, الشيخ عبد الجليل السّعدي, وكذلك عيّنت الحكومة نجيب غنيمة مديراً للناحية, والسّيّد سليم عبد النّور رئيساً للبلديّة, وعبّاس جاويش خفراً للدركيّة, وتمّ تعيين اسكندر كسبو للبريد"1", لذا فاغلب الّذين سكنوا فيها في البداية كانوا من المسيحيين الّذين فرّوا من بطش النّظام التّركي عام 1915, على إثر مذابح الأرمن من مدينة ماردين المشهورة في تركية والقريبة من الحدود السّوريّة, وتركّزوا في القرمانية و تليلون قرية كوسكا, ومن ثمّ توزّعوا إلى قرية سيكر وبعض القرى المجاورة لها ومنها الدّرباسيّة آنذاك, فأرادَ الحكم الفرنسي أن يجمعهم لضرورات أمنيّة ومن دون إرادتهم على أساس حمايتهم في المدينة الجديدة, وشاطرهم الحياة المهاجرون من منطقة أومريا التّابعة لولاية ماردين والمناطق الأخرى, إمّا بحثاً عن لقمة العيش, أو هرباً من الخلافات العشائريّة, وأغلبهم كانوا من الهاربين من سفر برلك- الحرب العالميّة الأولى, حيث دبّت الحياة في المدينة الجميلة, فأصبحت مركزاً للتسوّق والتسويق من القرى المجاورة, وأغلبية القاطنين فيها يعملون بالزّراعة والقسم الأقلّ ككسبة في التّجارة, والصّناعة, ومنهم كأيادي عاملة, واتّسعت دائرتها سنة بعد أخرى, فالمواسم عادت تبشّر بالخير بعد سنةِ جفافٍ وعوزٍ سنة بنائها, وازدادت الهجرة إليها من القرى المجاورة,إمّا بحثاً عن العمل أو طلباً للرّاحة "2".


undefined


مخطّط مدينة الدّرباسيّة:

كما هو معلومٌ, فقد تمّ تخطيط ُالمدينة وبناؤها في عهد الاستعمار الفرنسي, فلا زالت حتّى اليوم بعض المعالم الفرنسيّة موجودة فيها كمستودعات مكتب الحبوب والّتي بُنيت عام 1943, وغيرها من المعالم, حيث قام حينذاك مهندسو المدن السوريون والفرنسيون بتخطيط المدينة وبنائها, فبنيت المنازل على ترتيبٍ متناسقٍ, ورسمت الشّوارع بشكلٍ هندسيٍّ متقنٍ على شكل مربّعات شطرنجيّة بحيث يمكن للناظر أن يرى جميع الاتّجاهات من أيّة زاوية كان, أيّ كلّ 1600 متر مربَّع يقع على أربع شوارع, وعرض الشّارع 10 أمتار, وفيها ثلاثة شوارع رئيسة من الشّمال إلى الجنوب بعرض 20 متراً, وتقسم هذه المربّعات إلى أربع قطعٍ, مساحة كلّ قطعة 400 متراً مربّعاً لكلّ منزلٍ, كان نموذج السّكن فيها طينيّ قديم بشكل عامٍ, وكذلك تركت مساحة 1600 متر مربّع في مركز السّوق, وتحوّلت فيما بعد إلى حديقة, وحفر فيها بئر سطحي لتزويد المطاعم والمقاهي والمحلّات التّجاريّة بالماء "3", وقد قسّمت المدينة قديماً إلى قسمين:

  • الحيّ الغربي: ويضمّ المسيحيون, ومعظمهم من المهاجرين من مدينة ماردين وقراها بعد الانتداب عام 1920 مع بعض الأرمن, وكانوا مسيطرين على تجارة السّوق, ومعظم الصّناعات والمهن اليدويّة من حدادة وتجارة وصباغة القشّ والأقمشة , وصياغة الذّهب والفضّة... إلخ.
  • الحيّ الشّرقي: ويضمّ الكورد, وبعض العرب الّذين قدِموا من منطقة ماردين ومن القرى المجاورة لها, ويعملُ معظمهم عمّال بناءٍ وفي الرّعي, والقليل منهم يعمل في التّجارة, وفي الوقت الرّاهن أغلب سكّان المدينة من الكورد مع بعض العائلات العربيّة والمسيحيّة, وذلك بسبب هجرة أغلب المسيحيين وكذلك نسبة من الكورد إلى المدن الأخرى:حلب- دمشق- الحسكة- القامشلي..إلخ, بسبب الأوضاع المعيشيّة نتيجة القوانين الجائرة بحقّ أبناء المنطقة, ولاسيّما أغلب المسيحيين كانوا من سكّان الحواضر في ماردين وآمد وغيرها, ومنهم من هاجر إلى خارج الوطن حلماً بحياة أفضل وسعياً وراء الرّزق والعيش, لذا فقد تأثّر نمو المدينة بالهجرات العديدة فيها وعلى فترت وشكلِ موجاتٍ, ممّا تسبّب بتوقُّف نموّها وتطوّرها تقريباً, وجديرٌ بالذكر في السّنوات القليلة الماضية وفي فترة متأخّرة بدأت المشاريع الصّغيرة فيها تحرِّك البلدة, وتطوّرت الخدمات فيها نسبياً, وتحسّنت الطّرق فيها, وتوفّرت مياه الشّرب, والكهرباء, والرّعاية الصّحيّة, والمدارس"4", وهذه كانت موجودة منذ البداية إلّا أنّها كانت محدودة الانتشار, فالظّروف المعيشيّة الصّعبة دفعت بالكثير من العائلات من مختلف العشائر والطّوائف إلى التّشتت في بقاع العالم "2", والبعد عن وطنهم وحاضنتهم الاجتماعيّة, والاندماج في المجتمعات الجديدة.


undefined


السّكان والمساحة:

بحسبِ دائرة الأحوال المدنيّة (النّفوس) في المدينة لعام 2013, بلغ عدد سكّان المدينة مع القرى التّابعة لها 110000 نسمة, أمّا عددُ سكّان مركز مدينة الدّرباسيّة مع القرى جطل وتل تشرين وتليلون فيبلغ 28000 نسمة "5", ويشكّل الأخوة المسيحيون اليوم ما يقارب 35 بيتاً أغلبهم سريان أرثوذوكس, تتبع لمدينة الدّرباسيّة 204 قرية, إلّأ أنّه تمّ مؤخّراً ضمّ 32 قرية من قراها وإلحاقها بناحية أبو رأسين المحدثة وذلك بموجب القرار 249 تاريخ 23/10/2008 والصّادر عن وزير الإدارة المحليّة والبيئة المهندس هلال الأطرش. بالإضافة إلى وجود أربع قرى غريبة عن سكّانها (قرى الغمر), حيث تعرّضت المدينة لحملات تعريب خلال السّنوات الماضية طالت أسماء قراها ومعالمها, فتمّ استبدالها بأسماء عربيّة بعيدة عن قواميس جغرافيتها وتراثها الكوردي الأصيل, تبلغ مساحتها مع ريفها 920 كم2.


undefined


المصادر والمراجع المستفادة منها أثناء البحث:

  1. مطويّة شهريّة (نشرة) يصدرها المجلس المحلّي للمجلس الوطني الكوردي في الدّرباسيّة ومجلس السّلم الأهلي في الدّرباسيّة عام 2014, مقال للكاتب عمر بكر.
  2. الدّرباسيّة ماضياً وحاضراً, تأليف إبراهيم يامين, دار ماردين, حلب 2009.
  3. المصدر السّابق.
  4. محافظة الحسكة, دراسة طبيعيّة- اقتصاديّة- بشريّة - تاريخيّة, تحوّلات وآفاق مستقبلية, أحمد شريف مارديني, 1986.
  5. دائرة الأحوال المدنيّة (النّفوس) في الدّرباسيّة لعام 2013.