وحـدة الصّـفّ الكُـردي في سـورية بين الشـعار النظـري وإمكانيـة التحقيـق

وحـدة الصّـفّ الكُـردي في سـورية بين الشـعار النظـري وإمكانيـة التحقيـق

سـرد تأريخـيّ

منذ بداية القرن الماضي ولا سيما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو 1916 وما تلاها من اتفاقيتي سيفر ولوزان بفترة قصيرة وما تمخض عنها من إنشاء مستعمرات أي دول تحت الانتداب الغربي في المنطقة، حكم القدر على القضية الكوردية بأن تبقى أسيرة الدوائر الاستخباراتية المحلية، فتمّ حرمان الشعب الكوردي من وطن يجمعه، وألحقت بعض أجزاء كوردستان بدول أنشئت حديثاً في المنطقة كسورية والعراق على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، قد تكون تسميات بعض هذه الكيانات المستحدثة موجودة من قبل لكنها لم تكن تمتد على الجغرافيات التي ألحقت بها فيما بعد، فكما هو معلوم فقد جرى تقسيم الأمة الكوردية باتفاقات دولية تراعي مصالحهم ومصالح عملائهم الإقليميين فقط من دون مراعاة لحقوق الإنسان وقضية شعب له تاريخ اصيل وقديم في المنطقة، ومنذ ذلك الوقت تمّ تسليم قضيته ومصيره إلى عملائهم الإقليميين في المنطقة، الذين ما إن شعروا بأي حراك أو يقظة كوردية سارعوا إلى إخماده بشتى الوسائل والطرق، وذلك خلال التنسيق الاستخباراتي والعمل العسكري المشترك بين الدوائر الأمنية العالمية وعملائهم في المنطقة، وعلى الرغم من المحاولات المتكرّرة للشعب الكوردي للخروج من تحت الرماد كطائر الفينيق ليقوم بدوره التاريخي كشعب عريق في المنطقة أسوة بالشعوب الأخرى التي تجاوره، إلا أن تلك المحاولات كانت تصطدم بلغة الحديد والقمع والإرهاب وباءت على الدوام بالفشل، لذلك تمّ التعامل مع قضيته بهذا الشكل طوال القرن الماضي، فبقيت قضيته أمنية لاتتجاوز سقفها الدوائر الأمنية للدول التي تقتسمها، وأي مطالبة بالحقوق من قبل أي حزب أو تيار كوردي كان يتهم بأن تيار إرهابي انفصالي، في خضم هذه الأحداث والسياسات الرعناء الظالمة بدأت الأفكار التحررية تتسرّب إلى المجتمع الكوردي وتتبلور بالتدريج في صيغ تنظيمية سياسية لمواجهة تلك السياسات الظالمة والحفاظ على الوجود وخاصة بعد الانتكاسات الثورية المتكررة لتكون داعمة لأي حراك ثوري قادم، فتأسّست احزاباً وتنظيمات كوردية وساهمت بشكل أو بآخر على نشر الوعي والتمسك بالهوية والوجود، فبعضها حملت رؤى ثورية لانتزاع الحقوق كما في الاجزاء الأخرى، وبعضها حاولت أن تتكيفت مع الواقع المفروض والهامش السياسي المسموح، فناضلت ضمن دائرة مرسومة محاطة بخطوط حمراء كما هو حال الحركة السياسية الكوردية في سورية، وفي هذا الصدد يجب ألا ننسى بأن التواصل والتنسيق لم ينقطع بين الأجزاء الكوردستانية التي تجمعها وحدة المصير والتاريخ والجغرافية، فالحركة الكوردية في أي جزء كانت تقوم بتوليف سياساتها بما يتناسب مع الوضع الكوردي العام ومع خصوصيتها في الدولة التي ألحقت بها ، ومع ذلك كانت الاعتقالات مستمرة بحق قاداتها ومناضليها وإلى اليوم كما في إيران وتركيا على الرغم من التطورات الحاصلة على مستوى القضية الكوردية عالميا ككل.


undefined


الحركة الكوردية في سورية وشعار "وحدة الصف"

في ضوء ما ذكرته آنفاً، وفي ظلّ الأوضاع المزرية طيلة القرن الماضي والمواقف من القضايا الكوردستانية التحررية، وكذلك الدور الموكّل بالدوائر الاستخباراتية المحلية لقمع أي يقظة كوردية لتوحيد الصفوف لم يكن بمستغرب إذا أردنا قراءة الواقع قراءة صحيحة وفهم معطيات الانشقاقات المتكررة الأفقية والعمودية التي أصابت جسم الحركة الكوردية في سورية بدءاً من الحزب الأم الذي تأسس عام 1957م وحتى اليوم، لكن ما كان مستغربا هو دعوة الحزب الوليد إلى "توحيد الصف الكوردي" فور إنشقاقه وتحميل الطرف المنشق منه ما آلت إليه الأوضاع، ومن بعدها بفترة قصيرة تكرار الديباجة" أثبتت الأحداث صوابية نهجناً"، أية صوابية؟ وأية احداث؟ لا أحد فكر فيها حقيقة، لذلك فشعار "توحيد الصف الكوردي" كان في الواجهة الإعلامية للأحزاب طيلة النصف الثاني من القرن الماضي وحتى اليوم وضربا من انتهاج الوطنية الحقة، فبقيت الحركة تترنح في أزماتها التنظيمية وتتصارع في معارك الخلافات البينية على حساب القضية والمصالح القومية العليا، فتسربت حالة الفوضى والمحسوبيات واللاديمقراطية إلى داخل تلك التنظيمات، وكذلك طائفة من المتسلقين والمستفيدين وحتى العملاء، فطغت الانتهازية ونزعة الأنانية على بعض القيادات السياسية فتفرد بكل ما يتعلق بامور الحزب من دون أن يترك أي مجال للعمل المؤسساتي والتنظيمي السوي، فظل شعار " توحيد الصف الكوردي" كلاماً نظرياً في جرائد الأحزاب السياسية وعلى ألسنة الشعراء والمثقفين، وفي خطابات الساسة على المنابر في المناسبات والاحتفالات، فكانت الحالة الانشقاقية أشبه ما يمكن نعتها بسنن" ولادة الأرانب" فظهرت في السنوات الأخيرة حتى " أحزاباً مناطقية" وللأسف تمّ إعطاء البعض منهم الشرعية وأصبحوا اليوم صانعي القرار في الحركة الكوردية ويمثلون الشعب. فأغلب تلك الانشقاقات لم تكن فكرية وإنما كانت تنظيمية صراعاً على المناصب والمكاسب والمصالح الشخصية والنفوذ، وما يدلل على ذلك تجاوز عدد تلك الأحزاب 50 حزبا، ناهيك عن بعض الأطر والتنظيمات الفكرية التي تدور هي الأخرى في فلك السياسة، لذلك حريّ بنا أن نسأل أين هي القضية من هذه الانشقاقات؟ وما موقع توحيد الصف الكوردي من هذه التشرذمات والانقسامات؟ هذه الأزمات البنيوية جعلت الحركة في صراع مازوخي داخلي تتعارك في فضاء ضيق مؤسف، مستنزفة كل الطاقات والإمكانات الموجودة لدى الشعب، امتد تأثير هذا الخلل إلى كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والوطنية. طبعاً يجب ألّا ننسى بعض المحاولات الوحدوية التي حصلت لكنها بمجملها كانت هشه وضعيفة آنية، فسرعان ما كان يصيبها الانشقاق لأنها لم تستند في الأساس على بنية متينة راسخة تساعدها على الاستمرار، علاوة على أنها كانت تقوم على توزيع الحصص والمناصب، لذلك يمكننا القول أن شعار الوحدة أو "توحيد الصف" بقي على الدوام حبراً على الورق، ويافطة عريضة للاستهلاك الحزبي والترويج ووسيلة لإقناع الناس.


يعني تشكيل مرجعية كوردية بخطاب سياسي موحد تمثل إرادة الشعب الكوردي في روج ئآفاي كوردستان وسورية بكلّ أحزابه ومكوّناته تتحرك وفق البعدين الوطني والقومي
undefined


ماذا يعني شعار" وحدة الصف الكوردي في سوريا" وهل يمكن أن يتحقق؟

قد يفهم البعض من هذا الشعار بأنّه دعوة إلى التوحيد في الهيكلية والتنظيم، بالتأكيد لا، إذن ماذا يعني؟ يعني تشكيل مرجعية كوردية بخطاب سياسي موحد تمثل إرادة الشعب الكوردي في روج ئآفاي كوردستان وسورية بكلّ أحزابه ومكوّناته تتحرك وفق البعدين الوطني والقومي، الوطني من خلال التعبير عن حقوق الشعب الكوردي والمكونات الكوردستانية التي تتعايش معه وتجمعهما وحدة المصير والجغرافية والعيش المشترك منذ مئات السنين وتتلاقى هذه الرؤى معا في النهاية في بوتقة الهوية السورية الجامعة، وقومي من خلال السعي الدؤوب لتشكيل جبهة كوردستانية عريضة للعمل معا وفق استراتيجية الأمن القومي الكوردستاني. وبتعبير آخر تعني توحيد الرؤى والمواقف والأهداف وإنهاء حالة التشرذم والانقسام وتغليب المصلحة القومية العليا على كل ما عداها، وبالتالي مخاطبة المجتمع الدولي والعالم بعدالة قضيته.


 إن الوقت برأيي بات اليوم مناسبا لتحقيق شعار" وحدة الصف الكوردي" لسببين: أولهما إن القضية الكوردية أصبحت اليوم رقماً مهماً في المنطقة وخرجت من الأقبية الأمنية والدوائر الاستخباراتية المغلقة للأنظمة الإقليمية التي بقيت في أسرها طيلة سنوات القرن الماضي، وثانيها: حان الوقت لرفع المظلومية التاريخية عن القضية الكوردية ككل التي كانت ضحية تسويات نهاية الحرب العالمية الأولى.


  لذا، يجدر اليوم بكافة الأطراف الكوردية في سورية وخاصة الطرفين الرئيسيين (Enks)و (Pynk) أن يكونوا على مستوى المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم تجاه شعبهم وقضيته العادلة، وأن ينهوا في أقرب وقت الملفات العالقة بينهما وبناء مرجعية شاملة ودعوة بقية الأطراف السياسية في روج ئافاي كوردستان إلى مؤتمر وطني شامل للتوافق عليها، فهناك إعادة ترتيب الأوراق والملفات في المنطقة لتشكيل مناطق نفوذ دولية جديدة، فعلى الكورد أن يتفقوا ويثبتوا للعالم بأنهم مثلما خاضوا حرباً ضروساً في وجه أشرس وأعتی تنظيم إرهابي في العالم المتمثل بداعش وقضوا عليه فإنهم في الوقت نفسه جديرون بأن يخوضوا المعركة في غمار السياسة ودهاليزها ويحصلوا على حقوقهم المشروعة وفق المواثيق والشرائع الدولية، فالاتّفاق الكوردي الداخلي هو الأساس نأمل أن یتحقّق في أقرب فرصة، فالخارطة السياسية لسوريا المستقبل بدأ العمل عليها، ولايمكن لأيّ طرف كوردي من دون الآخر أن يكون له مستقبل في المعادلة السياسية في سوريا المستقبل، لذلك الاتّفاق يعزّز قوّة الورقة المفاوضة في المحافل الدولة، وتبقی كلّ اللقاءات مع الوفود الدولية ومحافلها ناقصة ما لم تستند إلی موقف كوردي موحّد ومنسّق مع التكوینات المجتمعية في المنطقة، نعم هناك اهتمام دولي وخاصّة فرنسي وأمريكي بالمنطقة لكن يجب أن ندرك تماماً بأنّ هناك أيضاً أعداءً یتربّصون بالمنطقة ويحاولون النيل منها ومنع الكورد من الحصول علی أيّ مكسب حقوقي وتاريخي، لذلك يحتاج الأمر إلی التكاتف ووحدة الموقف والرؤی والأهمّ الإرادة بعيداً عن الأنانية ولغة الإقصاء والتفرُّد، فعلی الكورد ووكذلك أبناء المنطقة الخروج من قوقعة الخلافات الجانبية والتوجّه إلی مرحلة الحلّ السياسي في سوريا ككل ليكونوا القوّة الأكثر تنظيماً وفعّالاً في رسم معالم سوريا المستقبل التي ستكون بیتاً ومظلة جامعة لكلّ مكوّناتها القومية والدينية من دون إقصاء وتهميش في ظلّ نظامي ديمقراطي تعدُّدي لا مركزي، وبرأيي، أمام الكورد اليوم فرصة تاريخية قلما يجود الزمان بمثلها للحصول على حقوقهم وإنهاء المظلومية التاريخية بحقهم طيلة القرن الماضي وحتى اليوم إن استغلوا هذه الفرصة التاريخية وأجادوا التعامل معها بقوّة المنطق السياسي والعقلانية بعيداً عن لغة التشفّي والمصالح الشخصية والحزبية الضيقة التي ستكون في النهاية وبالاً علی الجميع ولن یستثنی منها أحدُُ.