روسـيا ودعوتـها للمصالحة بین الحكـومة السورية وكُـردها؟

روسـيا ودعوتـها للمصالحة بین الحكـومة السورية وكُـردها؟

العقليـة الشموليـة لا تمتـلك قابليـة التغییـر

في الآونـة الأخیرة تتالـت التصريحـات الروسيـة الرسميّة وعلی أعلی المستويات في دعوة كُـرد سوريا لفتح باب الحوار مع حكومة دمشق، فقد جاء التصريح الأوّل من سيرغي لافروف الذي دعا الكُـرد للتحاور مع دمشق وعدم الرضوخ لمحاولات فرض نزعات انفصالية، وجاء التصريح الثاني علی لسان المبعوث الروسي الخاص بسوريا ألكسندر لافرنتیيف الذي يحمل بین طیاته تحذيراً واضحا‌ً من خلال لفت نظر كُـرد سوريا إلی الاتّعاظ من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان داعياً إلی تنظيم حوار بین كُـرد سوريا وحكومة دمشق متحدّثاً عن حلول وسطية وضرورة الخروج باتفاقات محدّدة، الإدارة الذاتية من جهتها عبّرت عن استعدادها لأيّ حوار جدّي يفضي إلی نتائح إيجابية، بالتأكید هذه ليست المرّة الأولی التي تدعو موسكو لفتح باب الحوار بین الحكومة السورية وكُـردها، فقد جری منذ قرابة عام أو أكثر عدّة لقاءات بین مسؤولي الإدارة الذاتية ودمشق إلّا أنّها بقیت حبراً علی الورق ولم تفضي إلی نتيجة، الملفت للنظر هذه المرّة إنّه لم يمضِ أسبوعان علی الدعوة الجديدة حتّی جاء الردّ من رأس النظام أثناء أدائه القسم الدستوري كرئيس لولاية جديدة للجمهورية السورية في 17 تموز 2021 متّهماً البعض من كُـرد روجافاي كوردستان بـ «حاملو جواز السّفر السوري في الشمال السوري» وبأنّهم خانوا الوطن مرّتين، قائلاً: «خانوا سوريا في المرّة الأولى عندما تخاذلوا بالوقوف إلى جانب الجيش الوطني في السنوات الأولى للحرب عن سابق قصد وتصميم، والثانية عندما فرّوا أمام العدوان التركي فكانت الأولى تمهيداً للثانية، وفي كلتا المرتين كانوا الأساس والأداة في تمهيد الطريق أمام الغزاة، وكانوا جزءاً من مسرحية ألّفها وأخرجها (السيد الأميركي) وحدّد لكلّ من الطرفين دوره بدقة وتموضعه على الأرض وهامش المسموح به من الكلام وحتّى مقدار التعبير عن المشاعر من غضب ورضا».


فهذا الكلام يؤكّد مرّة ثانية أنّ دمشق لازالت تنكر الوجود الكُردي في سوريا وتتعامل مع الكُرد وقضيتهم بمنطق القوّة، ولا زالت العقلية الشمولية هي التي تتحكّم بسوريا ولا زالت هذه العقلية تعتقد بأنّها قادرة علی أن تعود كما كانت أيّ قبل 2011، للأسف هذه حال كلّ الأنظمة الشموليّة ولذلك لاتفاهم معها إلّا بسقوطها كما حصل في العراق واليمن وتونس ولیبیا، لذلك فموضوع الحوار عند هكذا نظام شمولي مركزي یبدو مرفوضاً من الأساس لسببين:

  • الأول: النظام ذو طابع عروبي المركز وشوفیني النزعة، لا يملك أيّ قابلية للتغییر، ولا يتقبّل الآخر المختلف، ففي نظره سوريا دولة عربية فقط، والآخرون يتبعون للعروبة «العروبة حضارة وباقي المكوّنات هي ثقافات» هذا ما جاء في أحد أحاديث بشّار الأسد، وكیف لا؟ فالنظام علی مدی خمسين عاماً من حكمه رسّخ مفهوم العروبة في أذهان السوريين، وحاول بشتّی الوسائل صهر الجميع في بوتقة العروبة، وهو في النتيجة نظام ديكتاتوري أمني يخاف من التغییر والحريات والديمقراطية. 


  • الثاني: الروس والايرانيون لكلّ منهما مآرب متباينة في سوريا لكنّهما متّفقتان علی حماية الأسد، فلروسيا أهداف استراتيجية في سوريا تمنحها فرصة التحكّم بملفات المنطقة، أمّا النظام الإيراني فله أطماع مذهبية وتوسعيّة وهو ربّما تريد شكلاً للحكم في سوريا المستقبل أقرب إلی الشكل اللبناني، لذلك فروسيا تريد سوريا موحدّة مركزية للتحكّم بها، فسوريا ديكتاتورية يقودها حاكم ضعيف أفضل لها من سورية ديمقراطية تعدّدية قوية، أمّا إيران فأيّ تطوّر للقضية الكُردية في أي جزء كوردستاني سيكون له تأثیر علی الكُرد في داحلها، فالدولتان هما المسيطرتان الفعلیتان علی الحكم في دمشق والحوار لا يصبّ في مصلحتهما في الوقت الحالي. 


لذلك لا يمكن للصراع السوري الذي دخل عامه الحادي عشر أن ینتهي إلّا بإيجاد تسوية سياسية شاملة غیر منحازة من خلال وضع دستور للبلاد من قِبل الأمم المتحدة وبمشاركة كلّ مكوّنات الشعب السوري القومية والدينية في اختيار شكل الحكم الذي يرونه مناسباً للعيش المشترك ويحفظ كرامة المواطن في ظلّ نظام ديمقراطي تعدّدي بعيد عن التحكّم والوصاية.

undefined


النفـوذ الروسـي في سـوريا والدور المأمـول منه في دعـوة الحـوار.

تتمتّع روسيا بنفوذ قويّ في سوريا منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وتعزّزت هذه العلاقة واكتسبت الثقة من خلال الوقوف مع دمشق في حرب تشرين وتقديم الدعم المادي والعسكري لها وكان حینئذِِ باسم المعسكر الإشتراكي، فالعلاقة بین الطرفين لم تنقطع حتّی بإمكاننا القول إنّ لروسيا دوراً في الكثير من الملفات الداخلية في سوريا وقد بدؤوا يهتمون بسوريا وموقعها الاستراتيجي وحاولوا علی الدوام التعاون والتنسيق مع نظام الحكم فيها في ملفات المنطقة وحتّی الملفات الداخلية، فعلی سبیل المثال مشروع الحزام العربي في كوردستان سوريا كانت لروسيا یدُُ فيه فهي من أعطت الضوء الأخضر للشوفينيين في سورية في بداية النصف الثاني من القرن الماضي بتعريب المنطقة الكردية باسم الاشتراكية العربية وتطبيق نظام (كولخوزات والسوفخوزات) الاشتراكية المشيدة والمنشودة وهي تعني: « مزارع جماعية لإدارة الأراضي والمشاريع الزراعية» وعلى إثره تم استيطان آلاف العائلات العربية في منطقة الجزيرة وغيرها بعد أن تمّ سلب أراضي مالكيها الكرد باسم «مزارع الدولة» وتوزيعها فيما بعد على المستوطنين الذين تمّ جلبهم من الداخل السوري، وجری كلّ ذلك تحت الحماية السوفيتية لحكومة دمشق. وكذلك عملية احتلال عفرين قبل عامين تمّت بموافقة بینها وبین تركيا والهدف كان إرضاء تركيا والتفاوض معها في ملفات أخری في الداخل السوري لصالح نظام الأسد فتمّ السماح ل تركيا باحتلال عفرين مقابل انسحاب المعارضة من عدّة مناطق في دمشق وريفها، فكان لتركيا أيضاً مصلحة استراتيجية في الوقوف في وجه المدّ الكوردي وهذا ما یظهر الیوم في نواياها العدوانية من خلال سعيها منذ الیوم الٱول لاحتلالها إلی تغییر ديمغرافية المنطقة وقمع وطرد سكّانها الأصليين الكرد، وهذا ليس غريباً علی دولة مثل تركيا التي تحارب الكورد وقضيتهم حتّی وإن نصب الكُرد خيمة لهم علی المريخ.


فالبنسبة لـ روسيا الیوم أصبحت سوريا لها نقطة تحول في تاريخها وتجاربها خارج الحدود، وخاصّة بعد فشلها في أفغانستان، وهي تعكس أيضا استراتيجية روسيا القريبة من استراتيجية الولايات المتحدة، «استشعار الخطر» خارج الحدود وإن كان بعيداً. سوريا تمثل نفوذاً جديداً لروسيا أيضاً إلى البحر المتوسط، ويمكّنها من الإمساك بعدة ملفات إقليمية من أجل تأمين مصالحها وفرض سياساتها، ضمن توافقات إقليمية ودولية. فروسيا من مصلحتها الحفاظ علی وحدة سوريا، فوحدة سوريا تمكّنها من السيطرة علی كلّ مواردها وخیراتها، وفي الوقت الحالي وخاصّة بعد بروز القوّة العسكرية للكورد تحاول روسيا إقناع الكورد ببعض الحقوق الثقافية كما صدر عنها «الحكم الذاتي الثقافي» ضمن وحدة سوريا، لكنّها تبحث في نفس الوقت عن إرضاء أطراف عدّة ومنها إیران. لأنّهم یدركون جيّداً أنّ أيّ تطور في القضية الكوردية في سوريا كما جاء علی لسان لافروف ستفجّر القضية الكردية في الأطراف الأخری، وكذلك حلّ القضية الكوردية يعني إنهاء الحكم المركزي في دمشق والتحوّل نحو اللامزكزية والديمقراطية وهو ما ترفضه دمشق بشدّة. المؤسف أن روسيا كدولة عظمی كان موقفها سلبي تجاه الكُرد وقضيتهم فوقفت علی الدوام مع النظام الديكتاتوري.


لذلك حريّ بنا أن نتساءل بعد الدعوة الأخیرة هل فعلاً روسيا هذه المّرّة جدّية في أن تكون ضامناً للحوار بین الطرفين؟


فالأنظار كلها الیوم تتوجّه نحو روسيا والدور المأمول الذي يمكن أن تلعبه لإيجاد حلّ مقبول یرضي الطرفين نظام دمشق والكُرد ويحقّق تطلعاتهما، حلّ مقبول يحافظ على وحدة الأراضي السورية ویعترف بحقوق الشعب الكُردي وهويته القومية في إطار دولة تعددية ديمقراطية لامركزية. للأسف روسيا حتّی اللحظة تنوب عن النظام في في دعواتها الحوارية فتارة تحذّر وتارة غير جدّية، فمواقفها غير ثابتة تجاه القضية الكُردية، فروسيا كما هو معروف تمتلك نفوذ كبیر في سوريا وبإمكانها الضغط علی دمشق للرضوخ لحوار جدّي بين الطرفين إلّا أنّها حتّی اللحظة منحازة للنظام في سياستها ودورها ضعيف في هذا الاتجاه.


undefined


هل حان الوقت لفتح حوار بین كُـرد سوريا ودمشق؟

يمكن فتح باب الحوار بین الكُرد ودمشق عندما یتواجد في دمشق نظام سياسي يعترف بكلّ مكوّنات سوريا القومية والدينية بعيداً عن عقلية الإقصاء وقمع الآخر، فالعقلية الحالية للنظام لا تستطیع قراءة الواقع وغیر قابلة للتعامل مع المستجدات الحاصله علی الساحة السورية منذ 2011، فقط الحلّ العسكري هو الأساس لديه، فللأسف نظرته للقضية الكوردية والشعب الكوردي هي شوفينية إقصائية، فعلی الرّغم من مرور أحد عشر عاماً علی الأزمة السورية وأصبحت سوريا ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، نجد أنّ النظام حتّی الآن غیر مستعدّ لإصدار مرسوم للاعتراف باللغة الكوردية وهي لغة مكوّن أساسي من مكوّنات الشعب السوري يشكّل تعداده ما يقارب 18% من العدد الإجمالي لسكّان سوريا، فهكذا عقلية لم يعد ممكناً التعويل عليها في حلّ القضية السورية ككلّ، لذلك فأيّ حلّ مستقبلي بین دمشق والكُرد بحاجة إلی ضامن دولي قويّ، فروسيا بإمكانها أن تلعب دوراً ريادياً في هذا الحوار لكنّها حتّی اللحظة غیر جدّية للخوض في هذا الجانب ولها حساباتها ولم تكن أصلاً القضية الكردية في سوريا في یوم من الأيام في اهتماماتها، بل في أغلب الأحیان تنوب عن النظام في موقفه تجاه الكُرد وقضيتهم في سوريا وقد رأينا كيف سلّمت عفرين لتركيا قبل سنتين ودورها في المستوطنات العربية في المنطقة الحدودية الفاصلة بین كُردستان سوريا وكوردستان تركيا باسم «الاشتراكية العربية» في النصف الثاني من القرن الماضي، فلروسيا اليد الطولی في سوريا تاريخیاً وبإمكانها أن تفرض علی دمشق التحاور مع الكُرد، لكنّه یبدو أن قضايا الشعوب وحقوقهم لیست في أولیاتها حتّی اللحظة علی الأقلّ، فلغة المصالح هي الأساس في التعامل مع القضايا، علماً أنّ الوقت مهيّئ الیوم أكثر من أيّ وقت مضی لفتح الحوار بین الطرفين، فثمة تقاطعات مشتركة بين حكومة دمشق وكُـرد سوريا، منها محاربة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "داعش"، والتحديات الاقتصادية، والعدوان التركي واحتلاله للأراضي السورية إضافة إلی قضايا أخری مشتركة.


في النهاية طاولة الحوار هي الحلّ، والأمر بحاجة إلی عقلية منفتحة علی الآخر، تعترف بوجوده وحقوقه، والقضية الكُردية في النهاية هي قضية وطنية بامتياز وعلی روسيا أن تقف موقفاً محادياً وضامناً تفتح خطّ الحوار مباشرة بین الطرفين والتوسط بینهما في إيجاد حلّ یرضي الطرفين ويكون نقطة الانطلاق لبناء سوريا جدیدة لكلّ السوريين وفق القرار الأممي 2254.