لِـمَ لَم یخـصّ الكـُرد نفسـهم بإسـلام سیاسـي كغیـرهـم؟

لِـمَ لَم یخـصّ الكـُرد نفسـهم بإسـلام سیاسـي كغیـرهـم؟

الكُرد من الشعوب العریقة والقدیمة في تاریخ المنطقة، وأحد أهمّ مكوناتها، غالیتهم یعتنقون الدین الإسلامي ولهم إسهامات ثرّة وبصمات واضحة في التاریخ الإسلامي قديماً وحدیثاً، فكما یورد الكاتب الإنكلیزي المعاصر "دیفید ماكدویل" في كتابه تاریخ الكُرد الحدیث The new history of Kurds بأنّهم دخلوا الاسلام عام 18 هـ بوساطة الصحابي الجليل عياض بن غنم في عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقاوموا في البداية الدين الجدید مساندين حلفاءهم الفرس الساسانيين، إلّا أنّهم سرعان ما قرؤوا الواقع الجدید وخاصّة بعد تضعضع قوّة حلفائهم الساسانین أمام المسلمین القادمین فدخلوا الدین الجدید كغیرهم ووضعوا كلّ خدماتهم في سبیل خدمته ونصرته وأصبح الكثیرون منهم قادة في المعارك والجبهات، إلّا أنّهم كما نری الیوم بقَوا كما یقول الكاتب المصري فهمي الشناوي " الأكراد یتامی المسلمین" مشتّتین متفرّقین لا كیان سیاسي معترف یجمعهم، فبقي وطنهم ملحقاً بأوطان الآخرین، وتمّ تقسيم بلادهم بین دول عدّة سوریا، تركیا العراق، إیران، وجزء مع دول الاتحاد السوفیاتي سابقاً، فالشعوب التي تجاورهم وخاصّة الفرس والترك استطاعوا طیلة التاریخ أن یستغلّوا الدین لخدمة سلطتهم السیاسیة وأبناء قومیتهم باستثناء الكرد الذین وضعوا كل إمكاناتهم في خدمة الإسلام من دون أن یفكروا یوماّ ما بشخصیتهم القومیة المستقلة، فالفرس بعد أن خضعوا للدین الإسلامي یتّخذون من الدین والطائفة ذریعة ووسيلة للتمدّد وتحقیق مصالحهم القومیة العلیا ولو تطلّب ذلك التدخل في شؤون الآخرین وممارسة الإرهاب والقتل والدمار فیستغلّون الدین لتحقیق مآربهم السیاسیة التي تخدم العنصر الفارسي بالدرجة الأولی، لذلك عند دخولهم الدین الجدید سارعوا إلی التشییع فهو المذهب المعتنق لدی أغلبهم منذ أوائل القرن العاشر 905 إلي یومنا هذا والذي أشاعه الصفویون في فترة حكمهم إیران حتّی دفع الأمر بالبعض للقول بأنّ التشیع دین مستقلّ ابتدعه الفرس كیداً للإسلام الذي أزال ملكهم وأباد سلطانهم فأرادوا الانتقام منه، فلم یستطعوا ردّه فأدخلوا علیه البدع والضلال للحفاظ علی شخصیتهم الفارسية وحمایتها من الذوبان في بوتقة العروبة والإسلام، وكذلك الأتراك الذین جاؤوا من أواسط أسیا وسكنوا المنطقة منذ قرابة تسعة قرون فدخلوا الاسلام واستغلوه في سبیل توطید سلطتهم ووجودهم فأسّسوا فيما بعد السلطنة العثمانیة التي اعتبرت نفسها وریثة للخلافة الاسلامیة فبسطت سيطرتها علی كل المنطقة باسم الدین الإسلامي ودام حكمها قرابة أربعة قرون حتّی قیام الحرب العالمیة الأولی عام 1914.


undefined


فالإمبرطوریتان الصفویة والعثمانیة من الناحیة المركزیة اتخذتا الدین والمذهب للاستعلاء والمكابرة علی الشعوب الأخری واحتلال أراضي الغیر فالسلطة السیاسیة في كل منهما بنیت في العمق علی العنصریة ومزاعم التفوق الدیني والمذهبي وحاولتا علی الدوام صهر الشعوب والقومیات الأخری في بوتقة أمتهم، أمّا العرب فلم یحسنوا استخدام السلطة الدینیة لتحقیق أهداف وغایات كبری مثلما فعله الأتراك والفرس فقد أصبح الدین وسيلة لتعریب الشعوب الأخری كما رأینا في العصر الأموي الذي كان ذا طابع عربي كیف قام عبد الملك بن مروان بتعریب الدواوین الذین كان من أهمّ أعماله واعتمد علی العناصر العربیة في الإدارة والحكم، فالدین الإسلامي كان له الدور الأكبر في الحفاظ علی القومیة العربیة لأن القرآن قد نزل بلغتهم وبنصّ مقدَّس، لكنهم فقدوا السلطة السیاسية فيما بعد ولا سيما بعد احتلال بلادهم من قِبل العثمانیین الأتراك، أمّا الكرد فقد بقوا تابعین للأمبراطوریتین الصفویة والعثمانین مشتّتین فاقتصر دورهم في خدمة غیرهم وكانوا علی الأغلب هم فرسان ووقود المعارك وخاصّة في المعارك التي جرت بین الأمبرطوریتین المذكورتین، طبعاً هذا لا یعني بأنّه لم یكن للكرد أي محاولة لإبراز وإظهار شخصیتهم المستقلّة علی مسرح التاریخ، بالتأكید فقد أسّس الكورد العدید من الإمارات شبه المستقلة في تلك الفترة كإمارة بوطان وإمارة بهدینان وسوران وأردلان وهكار وغیرها وكانت تتمتع بشيء من الحكم الذاتي وخاصة ضمن الإمبراطوریة العثمانیة المترامیة الأطراف، لكن لم یستطع الكورد تشكیل قوّتهم الموحدة كغیرهم فبقوا علی شكل إمارات موالیة للسلطة المركزیة يغلب علیها الطابع العشائري أو المناطقي لذلك سرعان ما كان يتمّ القضاء علیها عندما تشعر السلطة المركزیة بازدیاد نفوذها و قوّتها أو بروز النزعة القومیة والاستقلالیة لدیها. لذلك وفي سبیل القضاء علیها تلجأ السلطة المركزیة إلی اتّهام قاداتها بالتمرّد علی إرادة الله وشقّ صفوفّ المسلمین وذلك من خلال فقهائها الذین كانوا يطبّلون باسمها ويؤوّلون النصوص الدینیة لتوافق مع استراتیجیتها وتحقّق مرامها وأهدافها.


undefined


كیـف سخّـر العـرب والفـرس والأتراك الإسلام الكُـردي لتحقیق مآربهم؟

الكردي الجیّد تاریخیاً وحاضراً بالنسبة للعرب والأتراك والفرس هو الذي یفكّر كما هم یفكّرون ويضع كلّ خدماته في خدمتهم وإلّا فإنه في قفص الاتهام ویجب محاربته، وقد اعتمدوا هذه القاعدة منذ مئات السنین ولم يقبلوا أن یكون الكردي سيّد نفسه ویتمتّع باستقلالیة الشخصیة بل رأوه علی الدوام تابعاً لحكمهم، لذلك حاول العرب والفرس والأتراك علی الدوام استمالة شیوخ الدین الكرد لخدمة سلطتهم السیاسة باسم الدین، لذلك لا غرابة أن تجد علماء دین كُـرد كبار إلی جانب الحكام والسلاطین، وخاصّة أنّ السلطة السیاسیة كانت تستعین بهؤلاء غالباً في أوقات الشدّة والعسر والأزمات لیكونوا إلی جانبها في إعلاء شأنها وكیل المدائح للسلطان بأنّه خلیفة الله وأنّه یستمدّ شرعیته من تقوی الله وأوامره، وإنّ العصیان علیه ومخالفة أوامره هو عصیان علی الدین، لذلك لا غرابة أن نجد شخصیات دینیة من أصول كوردیة كانت تمثل السلطة الدینیة وتدعم الحكام العرب والفرس والأتراك، وكمثال من التاريخ الحدیث بقي العلّامة محمد سعید رمضان البوطي وكفتارو وغیرهم الكثیرون في هرم السلطة الدینیة في سوریا في عهد حكم الأسد وبشار فیما بعد، فهؤلاء لم یكن لدیهم أيّ ٳحساس قومي یذكر تجاه أبناء جلدتهم والمظالم التي كانت ترتكب بحقّهم، بل في الكثیر من الأحایین كانوا وبالاً علی بني قومهم من خلال نعتهم بصفات ذمیمة، فعند دخول أمریكا إلی العراق صرّح البوطي حینها قائلاً: "سأضع نسبي تحت قدمي" علماً أمریكا احتلت العراق بموافقة كلّ المعارضة العراقیة وحتّی النظام السوري الذي كان البوطي يعمل عنده والذي شارك كحلیف لأمریكا بعدد من جنوده ضدّ النظام العراقي في حرب الكویت. والعلّامة البوطي وغیره كانوا یعرفون جیّداً بأنّ حكام المنطقة كلّهم یتعاملون مع أمریكا وغیرها فيغضّ النظر عن ذلك، لكنّه للأسف أبدع في جلد ذاته الكوردیة وهذا لیس بغریب في التاریخ الكوردي خدمة للأخرین.

علی الإنسان الكُردي أن یكون یقظاً رافضاً التوجهات التي تدعم هذه التيارات المتطرفة الإسلامية
undefined


للأسف الكُـرد خدموا الجمیع لكنهم لم یخدموا أنفسهم، فتمّ استغلالهم من قبل الآخرین باسم الدین لیحقّقوا أهدافهم القومیة الاستراتیجیة فاستخدموهم في معاركهم لتوسيع نفوذهم السیاسي علی حساب شخصیتهم القومیة. لذلك نجد الیوم:

  • إنّ إیران تتّخذ من المذهب الشیعي وسیلة لتوسیع نفوذها وإحیاء إرثها الإمبراطوري القدیم علی حساب شعوب المنطقة الیوم فامتدّ نفوذها إلی سوریا والیمن ولبنان ودول عدیدة في المنطقة والعالم، وتمّ تسخیر الجمیع بمن فیهم الكورد الذین یعتنقون المذهب الشیعي لخدمة أهدافها التوسعية.
  • وكذلك الأتراك ونظام أردوغان السائر على نهج العثمانيين هو الاخر يتّخذ الیوم من الدين والمذهب وسیلة لاحتلال أراضي الغير وإعادة أمجاد الخلافة العثمانیة، وفي سبیل ذلك سعوا وعلی الدوام علی إثارة المشاعر الدینیة لدی الكورد لتسخیرهم في خدمة أحلام الخلافة المنشودة، وقد رأینا كیف خرجت مظاهرات حاشدة في آمد(دیار بكر)عاصمة كوردستان تركیا للتضامن مع القدس. وكأن العرق الطوراني هو شعب الله المختار لقیادة البشرية ویجب تسخیر الأقوام الأخری لخدمتهم. لذلك لو قارننا بين النظام السياسي في ايران وتركيا فكلّ منهما اختار مذهباً للتوسع وقضم بلاد الغیر لمصالحها القومية أيّ أنهما استخدما الدين وسيلة وكذلك النظام العربي في سوريا والعراق، لذلك ومنذ بدايات القرن العشرين عندما قسّمت المنطقة إثر اتفاقیة سایكس بیكو عام 1916 بقي الكوردي محروماً من دولته فاستغلّ الأخرون الدین لخداعه وثنیه عن المطالبة بحقوقه القومیة كما حصل في لوزان عام 1923 وكان یتّهم إذا ما حاول البحث عن حقوقه بأنّه إرهابي وإنفصالي حتّی أن المؤتمرات والمجالس الإسلامیة طیلة القرن الماضي لم تؤیّد حقوقه بل كانت دائماً تقف مع المحتلین وتشرعن جرائمهم ضدّ الشعب الكردي. 


undefined


لذلك ما يُؤخذ علی الإنسان الكوردي إنّه لم یسعی يوماً ما إلی تكوین سلطة دینیة مركزیة خاصّة به ولم یستغلّ الدین ويؤوّله كغیره لتحقیق طموحاته وأهدافه، فكان للأسف دائماً في خدمة الإسلام الفارسي أو الطوراني أو العربي. والمشكلة، أنه وبعد دهور من هذا الخطأ القاتل الذي وقع فيه الكـرد، وفي الوقت الحالي وبعد أن شهدت المئة سنة المنصرمة أو ما ينوف نمو الحركة التحرّرية القوميّة الكورديّة التي قدّمت مئات الآلاف من الشهداء والضحايا وأصبحت لها وزناً سیاسیاً علی مستوی المنطقة والعالم نرى أعداء الكرد هذه المرّة یلجؤون إلی دعم أحزاب و تيارات إسلامية بين الكورد من جديد من صناعتهم أيّ الانظمة الايرانية والتركية والعربية الاسلامية للوقوف في وجه الأفكار الدیمقراطیة والتحرّرية للحركة الكوردیة، وأغلبها مدعومة من منظمة الإخوان المسلمین الارهابية التي ترفض التحرّر القومي الكوردي وتنبذه وتحاربه، وخاصّة بعض الأحزاب والتیارات الدینیة في إقلیم كوردستان وفي كوردستان تركیا حالهم حال الاتجاه الكوسموبوليتي الذي يدعو له اليسار الكردي المتطرف من نبذ للقومية والالتحاق بالقطار الطوراني أو الايراني إلخ.


لذلك يجب علی الإنسان الكُردي أن یكون یقظاً رافضاً التوجهات التي تدعم هذه التيارات المتطرفة الإسلامية، وعدم السير في ركابها، وإبعاد السلطة المدنية والسياسية الكوردستانية عن مساراتهم، والعمل على تنمية الوعي القومي الديمقراطي الكوردي وعدم الوقوع مرّة ثانیة في الأفخاخ التي ينصبونها أعداء الكرد بغیة إجهاض الحركة التحررية الكوردیة وإخراجها عن مسارها الأخلاقي والإنساني التحرّري، فیجب علی الإنسان الكردي أن یكون مدركاً لما يخطّط له في الخفاء وألّا ینخدع مرّة ثانیة بالشعارات الدینیة التي لجأ إلیها أو یستغلها البعض لوأد قضیته وإدامة مظلومیته التاریخیة من جدید.